اتخذت مجريات المشهد السياسي في لبنان دلالات دراماتيكية جديدة في الساعات الأخيرة في ظل ما يمكن اعتباره بوادر إخفاق مبكّرة للمسعى الذي يقوم به زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري للتوصل الى اختراقٍ في الأزمة الرئاسية والسياسية على قاعدة استكشاف إمكان دعمه ترشيح زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون للرئاسة.ومع ان الحريري لا يزال يبدو ماضياً في تحركه الذي قاده خارجياً امس الى موسكو، حيث التقى وزير الخارجية سيرغي لافروف ومن بعدها سيقوده الى تركيا وربما الرياض، فإن سرعة التطورات الدراماتيكية التي كان مسرحها المواجهة الحادة بين الكنيسة المارونية ورئيس مجلس النواب نبيه بري وما نشأ عنها من تجاذبات لم يغب عنها المنحى الطائفي، أدّت بمفاعيلها الساخنة للغاية الى خلْطٍ حاد للأوراق أعاد الأزمة على ما يبدو الى مربّعها الأول بل الى الأسوأ.ذلك ان مساع حثيثة بُذلت غداة إلقاء البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي العظة النارية التي هاجم فيها بشدة مبدأ وضع سلّة تفاهمات مسبقة تشكل ممراً إلزامياً لانتخاب رئيس الجمهورية التي يشترطها بري ويمعن في التشبث بها على ما يكرر في كل تصريحاته وأحاديثه العلنية. وتناولت هذه المساعي تهدئة الأجواء بين رأس الكنيسة المارونية وبري بعدما بادر الأخير الى الردّ بشكل حاد على عظة الراعي. وبدا واضحاً ان هذه المساعي فشلت ولم تؤد الى إعادة الأمور الى نصابها رغم حرْص شخصيات وثيقة الصلة ببكركي على الإيضاح ان البطريرك لم يستهدف بري تحديداً في موقفه بل عبّر عن موقف محدَّد من مسألة تقييد رئيس الجمهورية بشروط مسبقة. لكن الأمور اتّجهت في سياقٍ أشدّ تعقيداً وخطورة عندما فوجئ الوسط السياسي برمّته امس، بحديثٍ لبري في صحيفة «السفير» اللبنانية اعتُبر بمثابة إعلان مسبق لنتائج تحرّك الحريري على لسان رئيس البرلمان وأعلن فيه ان «جميع مَن التقاهم الحريري إما تحفظوا وإما رفضوا خيار انتخاب العماد عون»، بل ذهب الى تحميل تبعة هذين الرفض والتحفظ لزعيم «التيار الحر» نفسه مكرّراً انه، اي بري، لا يزال يؤيّد خيار انتخاب النائب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية معتبراً ان فرنجية «هو الخيار الذي يمكن الاطمئنان اليه، على كل الصعد، من الطائف وتوازناته الى خيار المقاومة وثوابته».هذا الموقف اكتسب طابعاً شديد الوقع على مجمل المشهد الداخلي واتجهت الأنظار نحو العماد عون لترقُّب ردّة فعله وخصوصاً ان نشْر موقف بري جاء قبيل الإطلالة التلفزيونية التي كانت مقرَّرة لعون عبر محطته (او تي في) مساء أمس والتي استبقها الأخير بإلغاء الاجتماع الاسبوعي لكتلته النيابية وسط أجواء عن موقف مهمّ سيطلقه ليلاً، وهو ما أضفى على الساعات الأخيرة طابع حبْس الأنفاس ترقّباً لما سيعلنه زعيم «التيار الحر» شخصياً ولا سيما بعدما شهدت بكركي قبل ظهر أمس تفاهماً كاملاً مسيحياً بين «التيار» وحزب «القوات اللبنانية» على رفض مبدأ السلة وتأكيد التضامن مع الكنيسة في موقفها.والواضح ان بري بدا كمِن رمى حجراً ثقيلاً جداً في بئر الرهانات العونية والحليفة له على اتجاه الحريري الى تبني ترشيحه رغم ان زعيم «تيار المستقبل» حرص في كل محطاته على تَجنُّب إعلان اي تخلٍّ عن ترشيح فرنجية ولكن من دون ان يخفي إمكان تبنيه لترشيح عون ايضاً وفق ما تفضي اليه مشاوراته.ولعلّ النقطة المتوهجة التي كشفتها مسارعة بري الى ما يوصف بـ «القوطبة» على الحريري والتحدّث عن نتائج تحركه بدل الحريري نفسه، هي انها أشعلت التساؤلات حول حقيقة موقف الشريك الشيعي الآخر الاساسي أي «حزب الله» وأين يقف من هذا التطور الدراماتيكي.كما ان موقف بري كشف ناحية أخرى تتمثّل في عقم التحركات التي قام ويقوم بها وسطاء بين بري وعون ومن بينهم نائب رئيس مجلس النواب سابقاً ايلي الفرزلي، الوثيق الصلة بعون، والمدير العام للامن العام اللواء عباس ابرهيم. اذ جاء موقف بري في قطعه الطريق تماماً ونهائياً على فرص انتخاب عون ليكشف ان كل ما قيل عن تقدُّم في تحسين الأجواء بين بري وعون لم يكن دقيقاً ولا صحيحاً، بل ان الأمور قد تتجه نحو تدهور واسع، الا اذا حصل تحرّك ما استثنائي من جانب «حزب الله» لتدارُك الأزمة وبلوغها حدود دفع العماد عون الى تفجير الموقف السياسي برمّته من خلال العودة الى خيار تحريك الشارع ابتداء من 13 اكتوبر الجاري ذكرى اسقاطه عسكرياً على ايدي القوات السورية العام 1990.ودخل منعطىفا جديدا امس، على الخط وساد ترقُّب حياله ويتصل بدعوة رئيس الحكومة تمام سلام الى جلسة لمجلس الوزراء غداً، وسط رصدٍ لسلوك «التيار الحر» حيالها واذا كان سيلجأ الى تكرار مقاطعتها من ضمن مسارٍ كان بدأه لكسْر حلقة الانتظار الداخلية والخارجية وتحويل الحكومة «رهينة» مقابل انتخاب عون رئيساً باعتبار ان الحكومة تشكل حجر الزاوية في الستاتيكو الذي يَعتبره المجتمع الدولي «خطاً أحمر»، ام ان «الجنرال» سيوجّه رسالة حسن نية حيال الحكومة ملاقاةً لمبادرة الحريري، في ظل انطباعٍ بأن حلفاءه كما خصومه يزيدون من وتيرة «اختباره» ومحاولة إحراجه في مرحلة «المفاصلة الرئاسية».وتعتقد الأوساط المواكِبة لمجمل التأزيم المستجدّ ان ثمة قطبة مخفية كبيرة ستتكشف قريباً ويتولى التمهيد لها بوضوح بري خلاصتها حسم خيار انتخاب عون سلباً وإعادة التراصف وراء ترشيح فرنجية. لكن ذلك، بحال صحّ، يشكل في نظر هذه الاوساط عنواناً ظاهرياً لمعادلة أخرى هي التمديد للفراغ ما دام «حزب الله» يَظهر كأنه غير معني بكل ما يجري، لذا تتريث الاوساط في إسباغ اي توقعات متسرعة في انتظار ما سيقدم عليه العماد عون في الساعات والأيام المقبلة والذي بات امام مرحلة مفصلية حاسمة لم تعد تحتمل اي مهادنة وتهدئة بالنسبة اليه بعدما أوحى له تحرك الحريري بأن رئاسة الجمهورية صارت قاب قوسين او أدنى من متناوله.