إلياس أبو شبكة (1903- 1947) شاعر لبناني رائع، ومثير. من أشهر دواوينه «أفاعي الفردوس». استوقفني، وأنا أعيد قراءة ديوانه، اعتراضُه على بول فاليري الذي يؤمن بقدرة الشاعر الموهوب على انتقاء اللفظة الشعرية الدقيقة، وتأثيرها الوجداني، والنفسي، والفني، وإثارة الإحساس الجمالي لدى المتلقي.يعترض أبو شبكة: «الشاعر الحقيقي لا طاقة له على اختيار اللفظ؛ فله من شعوره الزاخر ما يصرفه عن هذه الأُلْهية! وعندي أن الشعر ينزل مرتدياً ثوبه الكامل، وهذا الثوب جزء من الشعور لا يتجزّأ، وبقدر ما تكون ثقافة الشاعر من الرقي والذوق الموسيقي في روحه يكون البيان راقياً في شعره».أليست ألفاظ اللغة وفلسفتها التعبيرية من «ثقافة الشاعر»؟ اقرأ قصيدته «شمشون» وفيها يخاطب دليلة التي خدعته:مَلِّقيه بحُسْنك المأجورِوادفعيه للانتقام الكبيرِإن في الحُسْن يا دليلةُ أفعىكم سمعنا فحيحَها في سريرِأسكرتْ خدعةُ الجمال هِرَقْلاًقبل شمشونَ بالهوى الشرّيرِوالبصير البصير يُخدَع بالحُسنِ،وينقاد كالضّرير الضّريرِوالعظيم العظيم تُضْعِفه أُنثىفينقاد كالحقير الحقيرِفالمتأمل في بعض ألفاظ هذه الأبيات يجد أنها قلقة تعبيرياً في مواضعها ويمكن تبديلها بألفاظ أقوى وأصلح في الدلالة على رموز قصة شمشون ودليلة. ففي المطلع يمكن وضع لفظة اسحريه - اخدعيه، افتنيه... وهو ما يتوافق مع روح التركيب: إن في الحُسن يا دليلةُ أفعى... ومع قوله: خدعة الجمال، يُخدَع بالحُسْن. ولاحظ أن تكرار الحُسْن لم يصدم ذائقتنا الشعرية لغوياً ووجدانياً وجمالياً... لأنها تناسب الهدف: المرأة تخدع الجبابرة بسحر حسنها الأقوى جبروتاً، وتناسب تكرا ر الصيغة الاشتقاقية: خدعة، ويُخدَع. أما التكرار اللفظي: العظيم العظيم... والحقير الحقير، فلا وظيفة له تعبيرياً أو فنياً أو وجدانياً أو تصويرياً، والتوكيد اللفظي فيه ضعيف، وجاء زائدةً لغوية على حساب عناصر شعرية أخرى؛ فكان يستطيع إضافة لفظة جديدة تعمّق الدلالة، أو تُغْني انفعالاتنا بشحنة عاطفية جيّاشة، أو تثير خيالنا بإيحاءاتها التصويرية... الخ.قارن هذا مع تماهي ألفاظ: الحُسن، الأفعى، فحيح، السرير، وتناغمها مع السياق العام للنص ومع هدف الشاعر. واقرأ ثانية موقفه من اختيار الشاعر للفظ الشعري: «الشاعر الحقيقي لا طاقة له على اختيار اللفظ؛ فله من شعوره الزاخر ما يصرفه عن هذه الأُلْهية»!. فهل حقاً اختيار اللفظ أُلْهية ؟ وأن الشاعر «الحقيقي» لاطاقة له على اختياره؟ وهل اللفظ المختار عبث لغوي؟... اللغة هي الأداة الجوهرية الأولى في فنون التعبيرالشعري، والنثري: مقالةً وقصةً ومسرحيةً... كما هي الألوان والأضواء والظلال في الرسم، والطين والأحجار والرخام في النحت، وتموّجات الأنغام في الموسيقى.الشعر ليس وحياً وإلهاماً أفلاطونياً - إلهياً. نعم، للوحي والإلهام دور فعّال في الإبداع. ومقولة أفلاطون «الشاعر يغَنّي بقوة الآلهة»! خيال فيلسوفٍ، لا نظرية ناقد. والشعر «لا ينزل مرتدياً ثوبه الكامل»، كما يقول أبو شبكة، فهو فن إبداعي يضبطه العقل أو الوعي متآلفاً مع عناصر الشعر الأخرى في وحدة عضوية متكاملة. لا إبداع خارج الوعي. أبو شبكة يرى أن رقابة العقل للشعر نوع من الخرق، أو الحماقة!... يبدو أن «شبكة» إلياس مُخرَّقة، وغير محبوكة بإتقان!* شاعر وناقد سوري