هل يستطيع الإنسان أن يتصالح مع نفسه حتى في أسوأ الظروف؟ لعله سؤال صعب للغاية، وسهل إن استطعنا رؤية الأمور بوضوح اكثر وسلاسة بعيداً عن الظروف التي تحكم كل شخص فينا في هذا اليوم الذي يشبه بقية الأيام في حياتنا السريع البطيء المليء بالتذمر والإحساس بعدم الرضى.بينما كنت جالسة في إحدى مقاهي باريس أحتسي قهوتي وأطالع مظاهر البذخ الخداعة والمزيفة بين زحمة الترف ومظاهر التسول التي تزرع الحزن في قلوبنا، لفت نظري امرأة باريسية في خريف عمرها جميلة جدا وراضية وحريصة كل الحرص على عملها التي كانت تمارسه، وكأنها ترسم لوحة فنية أو تصنع تمثالا أغرمت به.كانت تنظف الطاولات وتمسحها بكل أناقة وكبرياء وتواضع، مع كل ما رزقها الله من جمال وصبر وقناعة ومظاهر لا تخلو من الشخصية الأرستقراطية وكأنها ملكة تمشي على الأرض، نظرت الى نفسي وأحسست كم أنا صغيرة وكم هي كبيرة، كم هي راضية وكم انا متذمرة، فتوقفت لأرى الحياة بوضوح اكبر.عرفت في عينيها أن الانسان عندما يرضى يعيش، وعندما يقنع بالحياة يشعر بالكبرياء والعزة، وإذا فقد ما هو غال يستطيع ان يثبت نفسه بالصبر والإيمان بالقدر رغم بصمة الالم التي لن تزول حتى آخر نفس فيه.أحسست أن الحياة أكبر من أن نشقى فيها رغم كل الأسى الذي نكابده فيها، فهذه المرأة رغم انها لم تكن تشبه العمل التي تمارسه أبدا تراها سعيدة وقنوعة ومليئة بالعزة والكبرياء، عندئذ أدركت انني قادرة على ان أغير بنفسي أشياء كثيرة لم أكن اشعر بوجودها لأنني اعتدت عليها، والشيء لا تدرك قيمته إلا عند فقده.أحببت أن أنقل لكم هذه المشاعر، فلربما بات الكثيرون منكم في زحمة الحياة والمسؤوليات والضغوط قد نسي ما حباه الله من نعم كثيرة لا يحس بها، لانه يتمرغ فيها ليل نهار من دون أن يحس بالشعور المقابل شعور الفقد لهذه النعم.هذه المرأة غيرت الكثير من قناعاتي، فكل واحد فينا قادر على تحمل ما لا يقدر عندما تكون لديه الروح القوية والإرادة المتينة والهدف المقدس، وكل منا يستطيع تجاوز الظروف السيئة التي قد تطرأ على حياته ليحيا سعيدا.اشكرك أيتها المرأة، علمتني ما غاب عني سنين طويلة، فهل أنتم قادرون على تجاوز محن هذه الحياة الصعبة، فنحن لسنا سوى ضيوف فيها، ولن نترك أثرا فيها سوى تلك الابتسامة الجميلة والعمل الجميل والروح القوية المليئة بالأمل.