يعجّ الوطن العربي في عصرنا الحالي بالمنظرين، ولعل أغلبهم من الهواة؛ فالمنظرون المحترفون الذين ينظرون ويكتبون بدقة وعمق قلة قليلة جدا، وهناك بون شاسع بين الاحتراف والهواية- ولا سيما- إذا كان الحدث أو المشهد يتعلق بمستقبل أمة! وأي أمة؟! إنها الأمة العربية الإسلامية ذات الحضارة الإنسانية.• نماذج من التنظير• التنظير الحضاري الثقافي: يُـنـظـّـر العالم السوداني الدكتور يوسف نور عوض للحضارة قائلا: «يبدو أن مفهوم الحضارة مغاير لكل المفاهيم التي نحاول استخدامها في فرضية (حوار الحضارات)، وذلك أن الحضارات لا تتحاور إلا أنه في العالم حضارة واحدة هي الحضارة الإنسانية، وهي تتعلق بكل المكتشفات العلمية والمؤسسات التي توصل إليها الإنسان». ا.هـ.إذا محصنا وتفحصنا ما يراه يوسف عوض؛ وجدنا أن حضارة أميركا المتقدمة لم تصنع بأيدي الأميركيين أو حتى بعقولهم، بل هي خليط من علماء من كل بلدان العالم؛ ولكن بمقدورنا أن نقول صنعت بطريقتهم وكيفية تعاملهم مع الآخر. ويبدو أن أميركا اتبعت أسلوب الحضارة العربية الإسلامية عندما انفتحت على الآخر واحتوته، وتبنت أفكاره وإبداعاته، ولم تنظر إلى عرق أو جنسية أو معتقد، بدليل أنها لم تكن شيئا يذكر عندما كانت غارقة في الحروب الأهلية بين الشمال والجنوب وسلب حقوق الملونين واضطهادهم.وفي موقع آخر ينقل لنا رؤية العالم الجزائري مالك بن نبي في تنظيره لمفهوم الثقافة قائلا «أحسب أن أدق رؤية عن الثقافة قدمها لنا مالك بن نبي في مؤلفه (الثقافة العربية والثقافات الأخرى) وقد لا حظ ذلك الدكتور عبد الله تركماني. وذكر الجملة الفاصلة في هذا الموضوع (الثقافة نظرية في السلوك وليس في المعرفة)» ا.هـ.إن مجرد ذكر السلوك ذلك يعني أننا دخلنا في حضارة، لأن الحضارة هي التي تقوم على سواعد أبنائها، وتأسس بأفكارهم، وتبقى بقوتهم، وتستمر بتماسكهم. ومقولة أخرى لمالك بن نبي يقول فيها«وليس عزوف الثقافة العربية الإسلامية عن الصراع ضعفا في تركيبتها أو خللا في عناصرها الأساسية، ولكن عنصر تحضـّر فيها، وعلاقة نضج ووعي، ومظهر صحة»ا.هـولكن ماذا نعني بالصراع؟ هل هو صراع الثقافات؟ وما فحوى هذا الصراع؟ وما هي مضامينه؟ وعلى أي شيء ثقافي سوف نتصارع؟ وهل مثل هذا الصراع محمود أم مذموم؟ وهل يدخل في التنافس الشريف أم غير الشريف ؟وللعالم المصري الفذ محمد حسنين هيكل، رؤية ثاقبة في الحضارات والثقافات تثير عدة تساؤلات، حيث يقول«ويستلفت النظر أن الثقافات الصينية والهندوسية لم تهدر وقتا غاليا في حكاية صراع أو حوار الحضارات، ففي هذه الثقافات الآسيوية كانوا على يقين من أنهم شركاء بثقافاتهم في المحيط الواسع، وبهذا اليقين أدركوا أن وسيلتهم الرئيسة لتحقيق أهليتهم في حق الشراكة أن يبنوا من وسائل القدرة على الفعل ما يمنع مهانة الظلم أو استعلاء الاحتكار أو الاجتراء على نفي شراكة الآخرين». ويصل إلى أن قبولنا بالمصطلحين كان دلالة ضعف«وحين قلنا بصراع الحضارات فقد اعترفنا بالعزلة. وحين دُعينا أو (دعونا للحوار) فقد ذهبنا لما يشبه طلب إذن باللجوء من متظلم إلى متحكم. ولم ندرك أن الحقوق الملكية لأصحابها إذا استطاعوا إثبات جدارتهم، وليس تواضع الآخرين للسماح لهم ببعضها»ا.هـلا شك أن المشهد العربي الإسلامي في جميع المجالات يتأثر بالمنظرين، بل ويعوّل عليهم في كثير من الأحايين، ولكننا حينما نقرأ للبعض حقيقة لا ندري ماذا يريد بالضبط، أيريد العزلة للمشهد العربي الإسلامي؟ أم يريد الحضور للمشهد العربي الإسلامي؟ فإذا كانت العزلة مؤداها الضعف كما يراها الكاتب، وإذا كان الحضور يفسر بالتبعية كما يدعي الكاتب، فماذا عسانا أن نفعل؟! وما هو الحل؟!ويـُنـظـّـر الدكتور المصري أحمد عبد الرحيم السايح، للثقافة قائلا:«أكثر ما يهتم به قادة الفكر الثقافة. المؤمنون بمفاهيم أمتهم، الدائبون لنشرها، وهو: نقلها من حيز النظر المجرد إلى الواقع البشري الحي، ووصل حياة الناس بها، بحيث تكون مصدر فكرهم، وشعورهم، وطابع سلوكهم، وسمة حياتهم العلمية. ومن هنا يخرج مدلول الثقافة عن قصد المعرفة المجردة إلى المعرفة الهادفة. أو بتعبير آخر: عن المعرفة الساكنة التي تتجاوز حدود العمل الذهني، إلى المعرفة المحركة التي تحدث تفاعلا، وحوارا، واضح التأثير مع تطلعات الفرد والجماعة»ا.هـيرمي المنظر هنا إلى ضرورة أن يكون للمثقف حضور على الساحة الاجتماعية، ويؤكد مشاركته الفعـّالة عقلا وروحا وجسدا؛ فلا ثقافة مع الانزواء عن المجتمع، ولا ثقافة مع الانطواء على النفس، لا بد للمثقف أن يشعر بهموم شعبه، وبقضايا أمته التي ينتمي إليها، والمثقف هو المدافع والمنافح عن المستضعفين المظلومين في الأرض؛ فهو لسان حالهم المرثية، ووضعهم المزري، وهو سلوكهم في نصرتهم وإنصافهم، وهو من يعول عليه في الحفاظ على أمن البلد من الفتن.لا نريد مثقفا صداميا، بل نريد مثقفا عقلانيا يقارع الحجة بالحجة بلياقة أدبية.لا نريد مثقفا نرجسيا، بل نريد مثقفا متواضعا يقبل بالرأي والرأي الآخر.لا نريد مثقفا انبطاحيا، بل نريد مثقفا موضوعيا لديه شفافية في طرحه.لا نريد مثقفا ارهابيا، بل نريد مثقفا متزنا ورعا حكيما في رأيه.لا نريد مثقفا انتهازيا، بل نريد مثقفا اجتماعيا يحافظ على مكتسبات أفراد مجتمعه.نريد مثقفا عضويا، لا يدمر بلدا من أجل اختلاف في الرأي مع أحد أعضاء السلطة.* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com