... الاتفاق الروسي - الاميركي حول مدينة حلب، أُنجز، لم يُنجز، سيُنجز. فالطرفان يريدان تجميد الوضع في حلب ليكون منطلقاً للمناطق السورية الأخرى وللتفرغ لضرب تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) و«جبهة النصرة» - القاعدة (سابقاً) وكلّ الفصائل الجهادية التي ترفض الانضمام الى العملية السياسية.إلا ان الطرفيْن يحتاجان الى بضعة أيام: أميركا تريد التأكد من ان روسيا لن تضرب حلفاءها او حلفاء حلفائها على الأرض، وروسيا تريد من حلفائها إنجاز الطوق حول حلب في الأيام القليلة المقبلة الفاصلة عن إعلان الاتفاق النهائي. فهل هذا انتصار لروسيا ام لأميركا؟في 15 أغسطس الماضي، كتبتْ «الراي» في تقريرٍ خاص ان «أوباما انتصر على إيران وروسيا من دون تدخل مباشر على الأرض في سورية والعراق». إلا أنه تبيّن أن الكرملين يطبّق سياسته الخارجية الشرق أوسطية على شكل اللعبة الروسية المعروفة باسم «ماتريوشكا» والتي تضم 51 لعبة خشبية، الواحدة داخل الأخرى.فعندما اتّضح لجميع المراقبين أن روسيا بدأت تغرق في رمال سورية، تفوّق الرئيس فلاديمير بوتين على نفسه وارتضى الصلح مع تركيا ليقلب الميمنة على الميسرة ويغيّر المعادلة الصعبة والمعقّدة في الحرب السورية ويحوّل الخسارة الى ربح ويدفع حلفاء الأمس الى الاقتتال ويوفّر حزاماً أمنياً لدمشق ليتبيّن أن بوتين يتقن اللعب بالروليت الروسية ويذهب بالجميع الى طاولة المفاوضات رغماً وليس طوعاً من دون أن يلجأ الى استعراضات «رامبوية» وبأقلّ كلفة ممكنة وبحلفاء لديهم القليل ليقدّموه على أرض المعركة.في سبتمبر 2015، بدأت الطائرات الروسية بقصف مواقع الجهاديين والمعارضة حول اللاذقية وجبل الأكراد وأمّنت عودة السيطرة لقوى دمشق وحلفائها على مناطق عدة حتى حول حلب ودمشق ودرعا جنوباً. وحينها بدأ الإعلام الغربي والمحللون في مؤسسات خاصة بمهاجمة روسيا لأنها «لم تحقّق أي تقدّم يذكر». وبعد ستة أشهر من القصف والتقدم، نادت أميركا بوقف إطلاق النار، فرحّبت به موسكو وغضبت دمشق وإيران لأن المسلحين على اختلاف إيديولوجياتهم وأهدافهم كانوا في تقهقر واضح. وإتُهمت روسيا بأنها «مبتدئة في سياسات الشرق الأوسط بإزاء حنكة أميركا الطويلة في هذه البقعة الساخنة من العالم». وسحبت موسكو عدداً كبيراً من طائراتها من قاعدة حميميم العسكرية وسط تعجّب واستنكار من إيران ومناصري الرئيس السوري بشار الأسد باعتبار أن توقيت سحب جزء من القوة الجوية والموافقة على وقف إطلاق النار كان غير موفّق أبداً، وإعتبر الجميع أن روسيا «أنفقت الكثير» وأن «ميزانيتها العسكرية أصيبت بالانكسار».وبعد بضعة أشهر، ومع تعثُّر المفاوضات بين أميركا وروسيا، أعاد الطيران الروسي حضوره المكثف على أرض المعركة، وبالأخص حول دمشق وحلب، ليحقق انتصاراً كاسحاً للنظام السوري وحلفائه بإغلاق حلب الشرقية على مسلّحيها وسكانها. إلا أن الطوق كُسر بعد أيام قليلة، واستطاع الآلاف من الجهاديين ومعهم المعارضة المسلّحة تسجيل نصر حقيقي بالسيطرة على أكبر الكليات العسكرية الأربع المحصنة والمملوءة بالذخائر ونحو 1200 جندي بوقت قليل جداً ومن دون مقاومة تُذكر من الجيش السوري المحصّن داخل أسوار الكليات الحربية، في وقت كانت تستعد موسكو لفرض شروطها على أميركا والأمم المتحدة معاً لإدخال المساعدات الإنسانية الى حلب والمطالبة بحوار حقيقي. ولم يعرف إلا قليلون من أصحاب القرار أن المشكلة لا تكمن في الأداء الروسي ولا بقدراته العسكرية والسياسية ولا بقدرات وزير الخارجية سيرغي لافروف أمام نظيره الأميركي جون كيري، إنما المشكلة الكبرى تأتي من دمشق وحلفائها.• لقد سحبت روسيا جزءاً من قوتها الجوية لأن الضعف يكمن في قدرة القوى الحليفة على الأرض على مواكبة واستثمار الجهد الجوي. فالجيش السوري يملك وحدة خاصة يقودها العقيد سهيل الحسن – المعروف بالنمر – تُزج على كامل الخريطة السورية لأن الجيش وعناصره يفتقرون الى عنصر وروحية القتال والثبات في وجه العدو. فحلفاء دمشق يملكون قوة مهاجِمة لا قوة مرابطة لتثبيت المواقع المستعادة بعد معارك ضارية ومكْلفة. وهذا ما دفع بإيران لإرسال عدد محدود من المقاتلين العراقيين والأفغان والباكستانيين والإيرانيين لا يتجاوز عددهم الـ 12 ألف مقاتل. أما «حزب الله» فعدد مقاتليه يتجاوز هذا العدد وحده على أرض سورية وجغرافيتها الواسعة، إلا ان الحزب غيّر من انتشاره وتكتيكاته العسكرية. فلم يعد يرسل الوحدات القتالية المكوَّنة من عناصره فقط إلا في حالات معينة (مثلاً على محور الكليات العسكرية وتلة أم القرع في حلب اليوم).وعلمت «الراي» أن «حزب الله» سيُنجِز الحصار حول حلب خلال مدة أٌقصاها الأيام العشرة المقبلة ليصار الى وقف نار شامل يتيح لروسيا التفاوض في شأن حلب مقابل توقف أميركا عن ابتزاز روسيا في ورقة «جبهة النصرة» (سابقاً)، وفصلها عن المعارضة المسلحة.إذاً، في كل موقع متقدم أو يُسترد، هناك حاجة ماسة الى الجيش السوري لاحتلال الموقع والبقاء فيه.وهذا ما تعلمه موسكو جيداً، كما تدرك ان الجيش السوري لم ولن يستطيع القيام بواجبه بعد أكثر من خمس سنوات ونصف من الحرب، إذ فقد الرغبة بالقتال، وهو ما دفع بروسيا الى إيجاد البديل: تركيا.* أخرج الرئيس بوتين لعبته «الماتريوشكا» ليرضى عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ويساعده في أول ساعات الانقلاب الفاشل. هذا ما دفع تركيا الى إعادة حساباتها وتغيير سياستها 180 درجة في سورية، فاستدعت القوى الكبرى من المعارضة التابعة لها والتي تُعتبر العمود الفقري لحلب لتدفع بها ضد الأكراد شمالاً. وانتقل الاشتباك داخل البيت الأميركي الواحد بين تركيا وحلفائها المدعومين من أميركا منذ خمس سنوات، وبين أكراد سورية المدعومين من أميركا. وبدعمه أردوغان - لا سيما بعد إسقاطه السوخوي 24 العام الماضي – لعب بوتين بالروليت الروسية وساعده بإنذاره المبكر بإعلامه قبل ساعات بما يُحضّر ضده من قبل جزء من الجيش التركي مدعوماً من الولايات المتحدة كما أوحى أردوغان ووزراؤه. إلا أن لعبته سمحت له بإخراج ورقة النجاة لدمشق وللأسد نفسه.واليوم ها هي تركيا تقبل بالأسد وتريد تسوية الأمور مع دمشق. واليوم تقول الولايات المتحدة إنها ستضطر للتعامل مع الأسد ولا تدعو لإزاحته قبل أي مفاوضات.واليوم أطلقت تركيا «رصاصة الرحمة» على حلم الأكراد بإقامة دولة روج آفا في شمال سورية وعلى طول الحدود السورية - التركية كما أراد لهم ذلك الرئيس باراك أوباما. واليوم تقبل روسيا ودمشق بالمعارضة «المعتدلة» المسلّحة بما فيهم «أحرار الشام» شرط عزل «جبهة النصرة» (سابقاً). في المقابل، تمتنع دمشق وروسيا عن استهداف المعارضة وتجميد خطوط التماس كما هي على طول الخريطة العسكرية السورية.واليوم تُقدم «الدولة الإسلامية» (داعش) وقريباً «النصرة» على مذبح التفاهمات الأميركية - الروسية.هذا هو الاتفاق المعدّ من الدول العظمى حول سورية والذي سيسمح بأفق يبشّر بإمكان التوقف عن التفكير بتقسيم سورية ووضْع حد للحرب تدريجاً ليصار الى القضاء على المتشددين غير الراغبين بركوب قطار التسوية.ولكن ماذا إذا لم يلعب أوباما في الملعب الروسي؟لقد أخرج بوتين من «الماتريوشكا» لعبته الأولى عندما بدأ قصف أعداء دمشق في سبتمبر الماضي، وأخرج الثانية عند قبوله بوقف النار، وأخرج الثالثة عند مساعدته بمحاصرة حلب ودعم حلفائه حول دمشق، وأخرج الرابعة بدعمه لأردوغان والموافقة على دخول قواته بأمان الى سورية. فماذا تحوي الـ 47 لعبة الباقية في جعبته إذا جرت الرياح بما لا تشتهي السفن؟
خارجيات - تقارير خاصة
تقرير / بوتين يطبّق سياسة «الماتريوشكا»
هل فشلت روسيا وإيران و«حزب الله» في حلب... وظهرت محدوديتهم؟
07:06 ص