تعتمد الدول المتقدمة في قراءتها للأحداث والمشاهد سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم ثقافية أم اجتماعية أم عسكرية أم غيرها من مجالات الحياة اليومية على منظرين في المقام الأول؛ فالمنظر يجمع بين المحلل والمفكر والمستشرف. والذي يجعل منه منظرا هو (الحدس) وهي ملكة موهوبة من الله عز وجل غير مكتسبة بالضرورة بالدربة والممارسة في كل الأحوال، وأيضا الذي يجعل منه منظرا هو (حسن التقدير) و(موازنة الرؤى)، أما التخمين والتأويل والتفسير فهذه مسائل نسبية قد تدخل في التنبؤ بعلم الغيب، وعلم الغيب عند الله عز وجل.أما المحلل فهو الذي يحلل الأحداث والمشاهد وفق معطيات مرئية، وغالبا ما يحلل الأحداث بعد وقوعها موعزا الأسباب لأمر ما، وقد لا يخرج بنتيجة، لذا تظل نظرته للحدث أو المشهد نظرة قاصرة على ما أسفرت عنه الأحداث وعلى ما آل إليه المشهد، ومثال على ذلك محلل كرة القدم بعد انتهاء الشوط الأول أو بعد انتهاء المباراة.والمفكر صاحب فكرة قد يؤخذ بها وقد لا يؤخذ بها، وقد تناسب الحاضر وقد تناسبه في وقت لاحق. ولكن متى يصبح المفكر عبقريا؛ يصبح المفكر عبقريا إذا كان غزير الإنتاج، فعبقرية أي أمة إنما تقاس بنتاجها.والمستشرف يبني الجزئيات ليستشرف المستقبل بالإيجاب أو السلب بناء على مكونات الجزئيات التي جمعها وبناها، فهو يطـّلع ويراقب الأحداث من شرفة عالية تحتاج إلى بصر نافذ مجازا.أما المنظر فهو من يرى الحدث أو المشهد بـ «النظر والبصيرة» كما يقال، وهو ذاك الذي يلامس الحدث ويعايش المشهد ويغدو جزءا من بنائه ويصبح مكونا من مكوناته وناتجا من نتاجه، ينسجم مع معطياته، فيكون مرآته العاكسة، وحدسه المستقبلي.والمناظرة تعد من الأدبيات لما تتحلى به من لياقة أدبية نبيلة في الطرح، وتقديم الحجج والبراهين والأدلة وفي كيفية دحضها بأخلاق رفيعة المستوى، وهي من العلوم القديمة القائمة على شخصيـْن لا ثالث لهما بحضور جمهور من المثقفين، وقد نختلف مع ابن خلدون الذي أدخلها في إطار الجدل، ففي ظننا أن الجدل مطالبة شخصية، قال تعالى: «ادْعُ إِلـى سـَبـِيـلِ رَبـِّكَ بـِالـْحـِكـْمـَةِ وَ الـْمـَوْعـِظـَةِ الـْحـَسـَنـَةِ وجـَادلهم بالتي هيَ أحسن...» سورة النحل: الآية 125.فالله سبحانه وتعالى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم، في ما يخصني فادعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي ما يخصك يا محمد فجادلهم بالتي هي أحسن بالذود عن نفسك، وكيف كنت فيهم، وكيف نشأت وسطهم، وما هو نسبك في قريش، كذلك المُجادِلة التي جادلت الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جادلت لمطلب شخصي رأته من حقها.هذا تعريف المناظرة قديما، أما اليوم فالمناظرة أصبحت شبيهة بعلم نظرية التجريب القائمة على فرضيات، وهو في الأصل علم كوفي نشأت عليه المدرسة الكوفية للقراءات القرآنية قبل أن تتحول إلى مدرسة نحوية، وخير دليل على ذلك هو كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري بين البصريين و الكوفيين، ما يعني أن المنظـّر في عصرنا الحالي طرف واحد، والطرف الآخر هو عبارة عن فرضيات يفندها الواحدة تلو الأخرى.ولنضرب بعضا من الأمثلة على ذلك؛ الأول: يقول الدكتور أسعد ملي «كان لنبوءة ماركس انعكاساتها الأيديولوجية السياسية التي مؤداها أن التغيير الثوري، إنما هو حتمية تاريخية وأن الرأسمالية إنما هي حفارة قبرها بيدها وتبحث عن حتفها بضلفها وإلى آخره مما هو معروف». ا.هـ، هذه نظرية قديمة لكارل ماركس ليست نبوءة كما يدعي ملي، إنما هي تحليل للأحداث واستقراء للمشهد، واستشراف لمستقبل الرأسمالية مصحوبا بحدس كارل ماركس. علما بأن هناك من لم يلتفت لحدس ماركس لما وصلت إليه الرأسمالية من قوة وسطوة وسيطرة في عصرنا الحالي، واليوم نرى حدس كارل ماركس في محله، وأن نبوءته كما يراها ملي قد تحققت.وإذا انتقلنا بعد أكثر من سبعين سنة، نرى جيم أونيل، وهو كاتب مقال، كتب تحت عنوان «العالم الناشئ ينهض»، حيث يقول «الآن بعد استقرار القضايا الخاصة بالزعامة في الولايات المتحدة والصين، وأصبح بوسعنا أخيرا أن نضع التوقعات الاقتصادية لعام 2013، في إطار محدد في ظل علمنا بمن سيحرك خيوط السياسة في الدولتين الأضخم اقتصادا على مستوى العالم. ماذا ستفعل الولايات المتحدة والصين إذن. بل لعل السؤال الأكثر أهمية هو ماذا قد تفعل بهما القوى الاقتصادية»؟ ا.هـ، هذا التنظير للكاتب جيم أونيل اعتمد على الاستقراء للمشهد الاقتصادي وما تضمنه من أحداث وصلت إلى حد الكوارث الاقتصادية، وانهيار أكثر من منظومة مالية كنا نظن أنها هي الأقوى، وبهذا التنظير يدل على أن الكاتب جيم أونيل قد عايش هذا المشهد ولا مس أحداثه حينما قال «في ظل علمنا»، وحدسه لم يركن إلى قوة الولايات المتحدة والصين كأضخم دولتين اقتصاديتين، بل لأنه استشعر بوجود قوة اقتصادية مقبلة سوف تفاجئ العالم، وتفاجئ هاتين الدولتين الاقتصاديتين (الولايات المتحدة والصين).ولعله هنا يشير إلى القوة الاقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي، وكوريا، وإيران، وتركيا، لذا دق ناقوس الخطر، منبها... وهنا أصمت؛ فكما يقال «الصمت في موضع الصمت، كلام».* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com