تواجه جهود الدولة التي تبذلها في تنفيذ خطوات عملية، واتباع فلسفة اسكانية جريئة تنبع افكارها من خارج اطار صندوق الافكار المعتاد، والمتمثل في بناء المدن العصرية والحديثة من اجل توطين 2.60 مليون نسمة خارج اطار ما يعرف بالمنطقة الحضرية حتى عام 2030، تواجه تحديات حقيقية تتمثل في تجذّر الفكر التقليدي والاشكاليات الاجتماعية، الأمر الذي يهدد نجاح واستمرارية هذه التجربة التي ستنفق عليها مئات الملايين من الدنانير.وبعد ان كان «بيت العمر» هدفا رئيسيا وحلما ورديا يراود كل المتزوجين، اصبح اليوم ثانويا، انطلاقا من سياسية «خذ البيت ولا تسكنه... بل أجره» ومقولة «امسك شيء في يدك افضل من لا شي» التي برزت أخيراً على الساحة الاجتماعية بين جموع الشباب الذين يعتبرون ان الحصول على الرعاية السكنية في مدينة جنوب المطلاع فرصة استثمارية وليست سكنية.والغريب ان هذه المقولة اصبحت اليوم «لازمة» تطلق بحق الذين كان هدفهم الرئيسي الحصول على السكن، ولكنهم في نفس الوقت رفضوا التقدم بطلبات التخصيص في مدينة جنوب المطلاع نتيجة لعدة اسباب، ومنها رغبة في الحصول على بيت العمر في مشاريع سكنية مستقبلية اخرى، وكأنهم باطلاق هذه المقولة بحقهم قد فوتوا على انفسهم فرصة لن تتكرر ابدا!وهذه المقولة، ان كانت تدل على شيء في ظل توجه الدولة لبناء مدن اسكانية ضخمة خارج الاطار الحضري المعتاد لمناطق البلاد، فإنها تدل على ان الحصول على الرعاية السكنية اصبح اليوم لا ينطلق من قناعة مطلقة بأهمية الحصول على بيت العمر، بقدر الحصول على اي شيء تقدمه الدولة للمواطنين وخصوصا في ظل الارتفاع الكبير والمتزايد لأسعار العقارات في البلاد.فغالبية الشباب الذين ينطلقون من هذه «المقولة» وخاصة اصحاب الطلبات الاسكانية ما بعد 2007 الذين يسكنون حاليا في شقق ويعانون من ارتفاع أسعار الايجارات، يعتبرون ان فتح باب التخصيص لهم بهذه الفترة القصيرة في مدينة جنوب المطلاع فرصة ومبادرة من قبل الحكومة من الممكن الا تتكرر مستقبلا، جاءتهم على «طبق من ذهب» من اجل تحقيق عائد استثماري من خلال بيع او تأجير تلك البيوت كهدف رئيسي اولا واخيرا.والمتابع للاراء والاحاديث التي تطرح في الدواوين والمقاهي يجد ان هؤلاء الشباب ينقسمون الى ثلاث فئات، الاولى من يريدون بالفعل ولديهم رغبة حقيقة بالسكن والعيش في هذه المدينة مهما كانت الظروف، وليس لديهم اي توجه للبيع مستقبلا، اما الفئة الثانية فهم المترددون الذين لم يحسموا امرهم وينتظرون ان تتضح الصورة النهائية للمدينة حتى يقرروا مصيرهم مابين السكن او التأجير او البيع.اما الفئة الثالثة التي تعتبر الاكبر، فهم الرافضون بشكل قاطع السكن في مدينة جنوب المطلاع، ويرون ان فتح باب تقديم الطلبات لهم بمثابة الفرصة الاستثمارية التي تمكنهم من جني عوائد مالية من وراء تأجير او بيع البيوت مستقبلا، ويستند رفض هؤلاء السكن في المدينة الى امور يمكن وصفها بـ«اشكاليات» اجتماعية ونفسية وتجارب سابقة، تم ربطها ايضا بشكل مباشر بعامل «المسافة» والبعد الجغرافي.وتكمن اولى تلك الاشكاليات في الواقع الاجتماعي الذي لايمكن تجاهله، المتمثل بالتجمعات العائلية والقبلية التي تشهده كل مناطق البلاد منذ زمن طويل والذي تتضح صورته بشكل اكبر في كل الانتخابات البرلمانية، حيث يرون ان السكن في مدينة جنوب المطلاع امر صعب جدا، انطلاقا من قناعة عدم القدرة على التكييف او العيش في اي مكان ومنطقة تكون بعيدة عن مكان ومركز طفولته واهله وجماعته.وهذا بالفعل ما انعكس بشكل واضح على المناطق والمدن السكنية التي تم توزيعها أخيراً، حيث نجد على سبيل المثال ان اغلب المواطنين الذين قاموا بعرض منازلهم للبيع او للايجار في مدينة صباح الاحمد هم اهالي محافظات الجهراء والفروانية والعاصمة، وفي المقابل نجد ان اهالي محافظات الاحمدي ومبارك الكبير الذين حصلوا على البيوت في مناطق الدوحة وغرب الصليبخات وسعد العبدالله قاموا بالاجراء نفسه.ولهذا اصبح الهدف الحصول على خدمة الرعاية السكنية التي تقدمها الحكومة والتي تمتزج فيه العوامل الاجتماعية والنفسية ليس للسكن، وانما من اجل ايجاد مورد ودفع مالي اضافي يمكنهم من تحمل تكاليف الاجارات التي يدفعونها حاليا من جهة، او احتمال شراء منزل قريب من «الديرة» و«جماعته» مستقبلا من جهة اخرى.وفي المقابل، يلعب العامل الجغرافي وعنصر المسافة دورا مؤثرا في عملية اتخاذ قرار السكن من عدمه، وخصوصا وان «مازاد الطين بلة» هو خطوة الحكومة برفع اسعار الوقود المرتقب تطبيقه على ارض الواقع مع بداية الشهر المقبل. حيث ان مدينة المطلاع ومدن صباح الاحمد والخيران والوفرة تعتبر وفق الواقع والمنطق في آخر المدن على الخارطة الحضرية، فالمسافة من تلك المدن تستغرق ما بين الساعة واكثر من الساعة تقريبا في الاحوال العادية، وتلك المدة ستزداد بشكل مضاعف وقد تصل الى ساعتين ونصف الساعة، وممكن اكثر اثناء ساعات الذروة.ويصاحب ذلك وجود تخوف واضح لايمكن انكاره من قبل هؤلاء حول مستقبل تلك المدن البعيدة التي من المحتمل الا يتم انجاز جميع الخدمات والمرافق الضرورية قبل ان تبدأ عملية توطين السكان فيها، مستشهدين بذلك بتجارب المدن الاسكانية التي تم الانتهاء منها أخيراً مثل مدينة صباح الاحمد لا تزال الى يومنا الحالي تعاني من مشاكل.ومدينة صباح الاحمد التي تعتبر احدى تلك المدة المستقبلية والذي تم الانتهاء، منها أخيراً يتم الوصول اليها حاليا بعد عناء من رحلة طويلة تصل الي ساعتين ونصف الساعة خلال فترة الذروة والاختناقات المرورية تعاني من انواع مختلفة من المشاكل مابين فوضي وحوادث مرورية وتسكع العمالة والرعاة الاغنام والابل والسرقات انعدام الامن وتكدس الشاحنات النقل والانشائية بالاضافة الى زحف رمال الصحراء «السافي» داخل الشوارع والطرقات الرئسية والفرعية.ويقابل هذه الجملة من المشاكل التي تعاني منها المنطقة التي تضم 5 ضواحي و9574 وحدة سكنية والذي لايتجاوز اعداد قاطنيها حاليا 500 بيت فقط منذ عام 2014، عدم اكتمال كل المرافق الضرورية والمهمة مثل المدارس والمراكز صحية ومراكز الشرطة، وهذه المشاكل ادت بدورها الى رفض غالبية سكانها العيش بها منذ عام 2014، ولجوء البعض منهم لعرض منازلهم للبيع والايجار، ولهذا فان الكثير من اصحاب الطلبات يساورهم الشك والخوف من تكرار تجربة مدينة صباح الاحمد في مدينة جنوب المطلاع.وبالانتقال الى الطرف الاخر الذين «فوتوا على انفسهم فرصة لن تتكرر ابدا» كما يقال لهم، الرافضون التقدم بطلبات التخصيص في مدينة جنوب المطلاع، فهؤلاء هدفهم الرئيسي هو السكن وليس الاستثمار، حيث تنطلق اسباب رفضهم لنفس العوامل السابقة، بالاضافة الى رغبتهم في الحصول على تخصيص في مشاريع اسكانية اخرى، الا ان اكبر اسباب رفضهم لمدينة جنوب المطلاع يرجع الى تخوفهم من احتمال ان تتحول المدينة مستقبلا الى منطقة لـ«العزاب» ويكون فيها المواطنون أقلية. ويرون ان التوجه العام للتأجير لدى غالبية المتقدمين الساعين للاستثمار سيدفع تحويل المنطقة بالكامل الي شقق سكنية، ولن يبالي في المقابل اصحاب «البيوت» بنوعية المؤجرين مادام هناك عائد مادي ثابت يدر عليهم دخلا شهريا، ويستشهدون بتجارب سكن العمالة الوافدة و«العزاب» التي تعاني منها حاليا كل مناطق الكويت النموذجية.ومن هذا المنطلق، يستوجب من الجهات الحكومية التعامل مع هذا الأمر في ان تبدأ من الان عملية فرز شاملة لموظفيها حسب طلباتهم في مؤسسة الرعاية السكنية وعنواين سكنهم المستقبلي من اجل ايجاد وتوفير الالية المناسبة لعملية النقل والفرز وايضا معرفة اعداد الموظفين، حتى يتم توفير الامكان البديلة مستقبلا. وهذه الخطوة لاتقل اهمية ايضا من انجاز كل المدارس والمراكز الصحية والامنية والخدماتية التي يستوجب ايضا جهوزيتها قبل ايصال التيار الكهربائي لتلك المدن.وعن طريق توفير الاماكن الوظيفية «البديلة» وكل الاحتياجات الضرورية والمهمة داخل المدن سيتم قطع الطريق على الراغبين بتأجير او بيع تلك البيوت مستقبلا ممن يرفضون السكن بحجة بعد المسافة عن الدوامات والمدارس وغيرها، والذين بلاشك كان لآرائهم تأثير سلبي على كل المتقدمين للحصول على رعاية سكنية داخل تلك المدن،والذي ادي بالنهاية الي ظهور قاعدة «امسك شيء في يدك افضل من لاشي». وعند تحقيق مرحلة التكييف يتم الوصول تدريجيا الي الخطوة الثانية والمتمثلة بعملية ازدهار ونماء تلك المدن من قبل سكانها،لان الخدمات لايمكن ان تتطور وتزدهر من دون وجود سكان يتفاعلون ويتأثرون في نوعية وجودة تلك الخدمات المقدمة،والعكس صحيح فلا ارتقاء في تقديم الخدمات دون تفاعل الناس معها. وهذا بدوره سيجعل من تلك المدن في النهاية اماكن جذب اجتماعية وتجارية واقتصادية من قبل المواطنين تنهي بذلك عقدة الثقافة المسيطرة من جهة، ونضمن من خلالها الايتم تحويل تلك المدن التي تم صرف ملايين الدنانير عليها مكان لعمليات تأجير الشقق والبيوت ومكانا لتجمع العمالة الوافدة والعزاب من جهة اخرى.كما ان المطلوب من المؤسسة العامة للرعاية السكنية اشراك اصحاب الطلبات في مشاريعها المستقبلية لمعرفة ارائهم وحجم الاقبال واسباب رفض حتى يتم التعامل بواقعية مع هذه الاشكاليات الحالية مستقبلا،وذلك باعتبار ان المواطن شريك اساسي ورئيسي في عملية التنمية التي تشهدها البلاد ويجب ان يشارك ايضا في تقرير واختيار مستقبله الاجتماعي.حقائق وإجراءات
محليات
جموع شبابية ترى في فتح باب التخصيص في المدن البعيدة فرصة ذهبية للكسب لا السكن في بيت العمر
«تسلّم البيت وأجّره»... السياسة الاستثمارية تواجه الرعاية السكنية
09:56 ص