حينما أهدى لي الأخ الصديق الشاب التونسي محمد الماجري، مجموعته القصصية الأولى «أوجاع الذاكرة»، استشعرت بمولد أسلوب غريب وغامض للقصة القصيرة لم آلفه بعد؛ فتارة أفهم وتارة لا أفهم ما يدور في خلد القاص، أجد كثافة كلامية في حيز ضيق من العسير عليّ فك رموزها وإشاراتها لما تحمله من سيميائيات جمّة، أجد معاني عدة تتكالب على اللفظة الواحدة تخنقها ساعة، وتريحها ساعات، فلا أدري أأشفق على نفسي أم أشفق على القارئ، أم أشفق على القاص التونسي محمد الماجري؟لربما اطلاع الماجري على الآداب الغربية في سن مبكرة- أعني سنوات الدراسة الجامعية- والشغف في النظريات الحديثة من مثل نظرية التجريب والتغريب وغيرهما، قد سوّغ له أن يكتب بفنتازيا تصل إلى حد الميتافيزيقيا أحيانا.إن رفضنا لبعض الكتابات المتحررة بطريقة رمزية تختلط في وظائفها الأشياء، والتي تعلو إدراكنا في بعض الأحيان من هذا الشباب الواعد المثقف؛ جعلنا نقصي أعمالا جميلة وخلابة من مشاهدنا الثقافية، ونحرّم على مكتباتنا العلمية والثقافية اقتناء كل ما هو جديد بحجة أنه تقليد أعمى للغرب!رتب الماجري مجموعته كالآتي: «رجل غريب، حقيقة، الهادي دبوزة، هي وهو، ثلاثة ورابعهم كتاب، تأمل، أمل، رجل من بلاد الوقواق، أنا والمكان، يوميات شاعر غريب، عصفور أبي رغال، مقبرة البلدة، دعنا نشكل وطنا للعشق، طفل». هذا هو ترتيب القاص الصحافي التونسي محمد الماجري لمجموعته القصصية الأولى. أما أنا فأرتبها على النحو الآتي: «طفل، مقبرة البلدة، عصفور أبي رغال، يوميات شاعر غريب، الهادي دبوزة، حقيقة، رجل غريب، ثلاثة ورابعهم كتاب، أمل، تأمل، هي وهو، رجل من بلاد الوقواق، أنا والمكان، دعنا نشكل وطنا للعشق». وبذلك أستطيع أن أقول بأنها تشكل رواية من حيث الحبكة القصصية المترابطة والمتماسكة حتى وإن كانت مجموعة قصص قصيرة؛ فكل قصة تعد لوحة مكملة للأخرى.وهذه المجموعة يُخيّل إليّ بأن بطلها واحد هو «القهر»، الذي جسّده الماجري في عنوان المجموعة «أوجاع الذاكرة»، فالماجري لم يتحدث عن أوجاعه؛ إنما اتكأ على أوجاع الأمة العربية الإسلامية، ونكأ جراحها، وقلب المواجع على كل مفكر ومثقف يئن لما آلت إليه العروبة والإسلام من وضع مزر مترهل. وبهذا أصبحت أوجاع الماجري هي أوجاع كل مثقف عربي يعاني من القمع الفكري، ويشعر بالتهميش والإقصاء، ويصاب بخيبة آماله وتثبيط لمعنوياته، وقتل هممه، ووأد أمنياته، والسخرية من أحلامه، نستشف ذلك من قصة «عصفور أبي رغال» قائلا: «سيدي أنا عصفور غربتني ذاكرتي وهملني والدي ورمى بنفسه في منزل العجز العصفوري وتزوجت أمي بعد طلاقها من والدي ببغاء يجيد حبك الكلام وترصيف اللغة. خربتني الكتب العصفورية، وخرب عقلي الصبر العصفوري، علموني حذق الأصوات والتصنت على الجغولات فلم أستطع أن أجد صوتي، بعثرتني المدينة بأسرارها، حرمتني من سماع صوتي» ص 48 و 49.لم يعتمد محمد الماجري على نمط واحدة من الكتابة، أو يقتصر على نمطين اثنين أو ثلاثة أنماط من الكتابة، بل لجأ إلى عدة أساليب بعض هذه الأساليب لفـّها الغموض، وبعضها خاضع للتأثير بالآخرين، رسم لنا خطوطا متوازية في شكلها ومختلفة في مضامينها؛ ربط لنا أدب الماضي بالحاضر من مثل أدب الجاحظ وابن المقفع وأبي حيان التوحيدي والهمذاني والحريري والبغذاذي وغيرهم الكثير، أراد أن يوظـّف كل كلمة قرأها وهنا مكمن الخطر، نحن نعلم بأن الألفاظ ليست حكرا على أحد وليست مملوكة لأحد، وليست العبرة في استعارتها من هنا وهناك؛ إنما العبرة في حرفية توظيفها ضمن السياق لكي تناسب الحدث كبر أم صغر، وتأثر الماجري في كتابات الروائي والمثقف والمفكر التونسي الذي أسس مجلة الحياة الثقافة التي تصدر عن وزارة الثقافة والمحافظة على التراث بتونس الأديب محمود المسعدي، كان واضحا جليا في أولى قصص المجموعة «يوميات شاعر غريب» قال: «حدثنا أبو جعفر خانقان بن تيمية بن الجوزاء بن الأخفق الحديبي بن الحارث بن الأخفق القينقاع بن أحمد ابن الكتابين بن حلّزة بن الخورنق بن المغانق بن المستنطق بن المسكتب حديثا ما سمعناه عن أحد» ص 44.إنها مرحلة كتابة جديدة تسبق سنه، أو قل بواكير لعهد جديد لبناء القصة القصيرة، نلمس ذلك في قصة «مقبرة البلدة» حيث يقول: «أنا الخلق الذي لا يروم السكون، أنا الريح التي لا تهدأ، أنا السعي المريد، أنا المنعطف المهرول، علة الرحى، قوة اللقاء، أسطورة الكيان، حدود التجربة، اعتمال الروح، رحيق المعنى، شواغل المعرفة، قرطبة الذكرى، شعر الأشعار، نثر الخلق، عوالم الخيال»... «مقبرة البلدة ص 55 و56».حاول جاهدا أن يمتلك تقنيات معاصرة لفن كتابة القصة القصيرة، حرصه الشديد على أن يأتي بشيء جديد، جعله يضغط على مخياله، فوقع في المحظور، فالتبس عليه فن كتابة القصة القصيرة بفنون أخرى تصنف تحت اللغة الشاعرية، أو قصيدة النثر، لذا؛ نحن نحذر من الاندفاع بالكتابة المبكرة المنشورة، ونأمل من الشباب التريث والتروي ريثما تتعانق الملكة بالثراء اللغوي.في قصة «تأمل» اعتمد جزالة اللفظ، ودفء الإحساسات معنا حيث يقول: «جميل أن ترى الدنيا بعيون امرأة، جميل أن تنير أكوانا من الخيال، أن ترفل بوشاح الرومانسية، وأن تزدان شمعتك ببسمة ثغر طفل لا يزال يترنح ببراءته نحو الأفق» ص 28.في قصيدة «دعنا نشكل وطنا للعشق» العنوان يوحي بدفء الإحساسات، غير أن الماجري، لجأ إلى اللوعة، فجسـّد في قصته هذه أوجاع أبناء الريف، وما يعتنقون من مبادئ ويتحلون به من قيم ومثل لا تسمن ولا تغني من جوع في أجواء المدينة الصاخبة التي استعمرتها الرأس مالية، فأفقدتها تلك العادات العربية الأصيلة، والوشائج الأسرية الجميلة، فتبخرت أواصر المحبة، وحلت مكانها لغة المال والمصالح الآنية، يقول: «لأن الأصالة رحلة في ذاكرة الأحرف والوجود ينعطف لغربة اللغة... لأنك أصيلة خلوقة... هم يلبسون الذئاب على أكتافهم وأنا ألبس بيوتك يا معري... لأنني رجل من زمن سحيق يتعلم الأخلاق من دفات كتب أسطورية... لأنك امرأة أصيلة...» ص 58 و 59.في قصة «طفل» يشاطر القاص التونسي محمد الماجري، الطفل العربي أحلامه ويقاسمه أمنياته، ويشعر بآلامه وأوجاعه، يجس حرمانه من أبسط الأشياء المعيشية، حيث يقول: «تخيّل الطفل وانفتحت عيناه نحو الأفق، رأى نفسه يلبس معطفا فخما ويركب سيارة كبيرة بدل الكريطة وسروالا أزرق بدل سرواله المهترئ الذي لم يغيره منذ سنة... رأى أخته تأكل البيتزا بدل العجة أو المحمصة بالفول» ص 62 و 63.* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com