تركتْ مجريات الأيام الثلاثة الأخيرة من الحوار الذي جرى بين ممثّلي القوى السياسية والنيابية في لبنان والتي انتهت، أمس، انطباعاتٍ غلب عليها التشاؤم الإضافي حيال قدرة الطبقة السياسية اللبنانية على تَجاوُز الأزمات التي تعصف بالبلاد.ورغم الضجّة المفتعلة التي أثارتها بعض الجهات المشارِكة في الحوار كما راعيه رئيس مجلس النواب نبيه بري وتصوير نتائج اليوم الثاني منه على انه حقق نقلة بارزة نحو إحياء البحث في البنود الإصلاحية التي لم تُنفّذ في اتفاق الطائف منذ وضْعه قبل 27 عاماً، فان مجريات الجولة الثالثة من الحوار يوم امس سرعان ما أفرغت هذا المناخ من مضمونه بعدما بدا واضحاً ان طريق هذه البنود مليء بـ «الألغام» نفسها التي تحول دون التفاهم على أزمة الفراغ الرئاسي.وقالت مصادر وثيقة الصلة بمجريات الأيام الحوارية الثلاثة لـ «الراي» ان بري، المشهود له بالبراعة في ابتداع المخارج الظرفية للملفات الشائكة، نجح واقعياً في إشغال المتحاورين عن الانقسامات الثابتة حيال ملفيْ رئاسة الجمهورية وقانون الانتخاب بنفْضه الغبار عن بند تشكيل مجلس الشيوخ الذي يلحظه اتفاق الطائف والدستور المعدَّل على أساسه، علماً ان تشكيل هذا المجلس يأتي وفق الطائف بعد انتخاب أول مجلس نيابي وطني على غير القيد الطائفي.وتعترف المصادر بأن بري حقق للوهلة الأولى ما يمكن اعتباره خرقاً في مناخ الحوار نفسه وليس في أفق الأزمات التي يعالجها المتحاورون، اذ ان رمي ورقة مجلس الشيوخ وربْطها بملف قانون الانتخاب وصولاً الى محاولة تشكيل لجنة (في جلسة 5 سبتمبر المقبل) لبلورة هذين البنديْن، أثار بدايةً حيوية مفاجئة في اليوم الثاني من الحوار بعدما كانت مجريات اليوم الأول أنذرت بفشل الجولة من بداياتها. وما سهّل مهمة «تلميع» الحوار ان ممثّل «كتلة المستقبل» الرئيس فؤاد السنيورة بدا الأكثر حماسة في تلقّف مبادرة بري، الأمر الذي عكس براعة مماثلة في المناورة السياسية التي التقى عليها بري وفريق «المستقبل» في ملفٍ لم يعارضه عند طرْحه اي طرف، قبل ان يحمل اليوم الأخير من الثلاثية بذور تفجير قضية الإصلاحات ربطاً بثلاثة تطورات:الاول، ان ثمة أطرافاً على الطاولة وتحديداً حزب «الكتائب اللبنانية» اعترضت على مبدأ البتّ بأي إصلاحات ذات طابع دستوري في ظل غياب رئيس الجمهورية وخارج المؤسسات الدستورية وتحديداً البرلمان، معتبرة في الوقت نفسه ان تطبيق الطائف يعني ايضاً «سيادة الدولة على كامل أراضيها وجمع السلاح فقط بين أيدي الجيش اللبناني».والثاني، محاولة بعض الأطراف على الطاولة من قوى «14 آذار» الفصل بين مساريْ مجلس الشيوخ ومجلس النواب خارج القيد الطائفي، باعتبار ان قيام مثل هذا البرلمان (على قاعدة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين ولكن دون تخصيص كل فئة او مذهب ضمن الطائفتين بعدد محدد من المقاعد) يستدعي كما تطالب قوى «8 آذار» وضع قانون انتخاب على اساس الدوائر الكبرى ونظام الاقتراع النسبي بالكامل مقابل قانون طائفي ضيّق لمجلس الشيوخ، وهو الامر الذي لا يمكن لفريق «14 آذار» السير به من منطلق سياسي يتصل بالتوازنات في اي برلمان جديد ومراكز النفوذ فيه، وهي المسألة التي شكّلت محور صراع كبير في البلاد منذ العام 2005 لما لها من تأثير على الأدوار والاحجام للقوى السياسية ورسْم المسار العام للبنان وتموْضعاته في لحظة اشتباك اقليمي كبير.وكان بارزاً في هذا السياق غمْز نائب «حزب الله» علي فياض بعد جلسة امس من قناة السنيورة بكلامه عن «قنابل متفجرة زُرعت بطريق الاصلاح السياسي بهدف تعطيله»، معتبراً انه «من وجهة نظرنا لا يمكن مناقشة مجلس الشيوخ بمعزل عن تشكيل مجلس النواب الوطني خارج القيد الطائفي والذي يستدعي قانون انتخابوطنياً ما يدفع الامور حصراً لنظام نسبي ودوائر اما على قاعدة لبنان دائرة واحدة او الدوائر الكبيرة، واليوم سعى البعض لعزل هاتين النقطتين والدفع فقط نحو مجلس الشيوخ».اما التطور الثالث فهو ما يعنيه ربْط قانون الانتخاب الجديد في مجلس الشيوخ و «مجلس النواب الوطني» من قضاء على اي بارقة أمل بامكان إقرار قانون جديد تجرى على اساسه الانتخابات النيابية في مايو 2017 وهو ما يفترض ان يحصل قبل حلول اكتوبر المقبل كي يتمكن مجلس النواب من مناقشة مثل هذا القانون وإقراره في دورته العادية الاولى بعد 15 اكتوبر وإلا سيكون امراً محتوماً الإعداد للانتخابات النيابية على اساس القانون الحالي «قانون الستين» الذي يتسابق الجميع على رفضه والتحذير من انتخاباتٍ على أساسه.ورغم هذه التعقيدات التي أطلّت برأسها من اليوم الأخير من ثلاثية الحوار، فان تحديد 5 سبتمبر المقبل موعداً لجلسة جديدة لطاولة الحوار بدا محاولة لشراء الوقت وتحقيق توافق يبدو صعباً على رؤية واحدة لملف الإصلاحات الدستورية بما يسمح بتشكيل لجنة من مختصين وخبراء ومعنيين لمناقشة قضية مجلس الشيوخ وصلاحياته وشكل انتخابه.وحسب مصادر سياسية، فانه بدا واضحاً تماماً ان بري وضع مخرجاً للحوار وليس لأي امر آخر لأن احداً ليس لديه الأوهام بان قلب الأولويات بالذهاب الى بعض بنود الطائف سيمكّن الطبقة السياسية من الاتفاق على مخارج للأزمة الرئاسية او لقانون الانتخاب، ومثلما حالت الخلافات العميقة دون التوصل الى اي ثغرة حيال هذين الملفين لن يكون الأمر مخالفاً في طرح ملف مجلس الشيوخ وربْطه بقانون الانتخاب.وكان بارزاً من خارج طاولة الحوار موقفا لرئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع عبّر عن مجمل المتوقّع من مداولاتها، اذ اعتبر «ان ما يجري في الجلسات الحوارية يتراوح بين مأساة كبيرة وملهاة صغيرة»، وقال: «أعان الله الشعب اللبناني على ذلك وأعطاه القوة لتمكينه من اجتياز هذه المرحلة الصعبة والوصول الى شاطئ الأمان، الذي لا أشك لحظة أننا واصلون إليه».