انتهت ليلة تركيا «السوداء» ... ساعات طويلة ومريرة عاشها الرئيس رجب الطيب أردوغان قبل أن يتمكن من السيطرة على الانقلاب العسكري الذي أراد الاطاحة به وبحكومته تحت جنح الظلام.النفق الذي خُطط لإدخال تركيا فيه، انتهى بأقل الخسائر بعد قصف الطائرات والدبابات لمواقع عدة في البلاد، ليطلّ صباح جديد فيه العديد من المتغيرات... حملة اعتقالات واسعة طاولت المؤسسة العسكرية والقضائية والوظائف الرسمية، تهديدات بإنزال أشدّ العقوبات بـ «الخونة» قد تصل الى الإعدام، اذا أقرّ البرلمان، القانون.أردوغان حمّل أنصار فتح الله غولن، الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقراً له، مسؤولية الانقلاب، مشيراً إلى إمكان ضلوع دول أجنبية لم يسمّها في الانقلاب الفاشل، ومشدداً على أن الجيش التركي «سيشهد عملية تطهير لتنظيفه من الانقلابيين».وفي أي حال، ورغم تاريخ تركيا الحافل بأربعة انقلابات عسكرية، اثنان منها أديا لتغيير الحكومة من دون سيطرة الجيش على مقاليد الحكم، الا ان ما حدث ليل 15 - 16 يوليو 2016 اكتسب أبعاداً بالغة الحساسية والخطور لأنه جاء في لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة تلعب تركيا دوراً محورياً فيها من خلال موقعها الجيو - سياسي وتأثيرها وتأثُّرها في الملفات المتفجّرة في المنطقة، ولاسيما سورية والعراق. فمن صاحب المصلحة بالتخلص من حكم اردوغان؟عن ذلك، يقول الكاتب السعودي جمال خاشقجي، لـ «الراي»: «بالدرجة الأولى، الطبقة العلمانية المتطرفة في تركيا، متحالفة مع جماعة فتح الله غولن. هؤلاء كانوا يرون التحولات الهائلة التي تحصل في تركيا، ينظرون اليها وهم صابرون على مضض، فيجب الا ننسى مبادئ الجيش الاتاتوركي الرافض لمظاهر التدين وكيف انهارت هذه المظاهر. وتالياً هؤلاء بالتأكيد يشعرون بالحقد، خصوصاً أنهم لم يجدوا مدخلاً على اردوغان من خلال صناديق الاقتراع كونه دائماً يفوز في الانتخابات فانتهوا الى أن الانقلاب هو الحلّ».واضاف: «لكن ما يثير الشبهات هو الموقف الأميركي والأوروبي الذي كان متردّداً في البداية، منها عبارة كيري الشهيرة عندما قال انه يتمنى لتركيا الاستمرارية، وهي كلمة عامة بدل استخدام كلمة ديموقراطية». وتابع: «لا شك في ان لأردوغان الكثير من الأعداء في الخارج، منهم بشار الاسد والحكومة العراقية وعبدالفتاح السيسي، كما ان علاقته بأوباما والفرنسيين والالمان لم تكن ممتازة، ومع ذلك لا أحد يستطيع القول ان يصل الأمر بهؤلاء الى الشراكة في الانقلاب الذي لو نجح كانوا سيرحّبون به ويدعون تركيا الى العودة للديموقراطية مع تنفّسهم الصعداء كونهم تخلّصوا من اردوغان وسياسته الحازمة».ورداً على سؤال قال خاشقجي: «سمعتُ أتراكاً يقولون ان ما من انقلاب حصل في تركيا الا وكان لأميركا علم به، لكن نحن نتحدث عن زمن آخر، زمن ما بعد الحداثة وما بعد الحرب الباردة. وآخر انقلاب حصل في تركيا كان في الثمانينات، أما انقلاب العام 1997 فكان اشبه بأمر عسكري الى الحكومة كي تتنحى (...)». وأضاف: «سألتُ مسؤولاً تركياً عن دور عربي، فأكد انه الى الآن لا توجد اشارات من هذه الدولة او تلك».ولفت خاشقجي الى ان «هذه المحاولة الانقلابية اظهرت سقوط القوة الليبرالية العربية التي لا تمانع بالانقلابات بل ترحّب بها، وشيء مخجل ان يدافع بعض المثقفين العرب وبعض الأعمدة والصحف العربية عن الانقلاب».وعن موقف موسكو وتل ابيب، قال: «الاسرائيليون كانوا صريحين، ومعلق اسرائيلي قال: ما كان احد ليشكو لو رأينا اردوغان معتقلاً. فهم غير سعداء به وبصعوده السياسي وضغطه عليهم لمساعدة غزة، هم يريدون تركيا القديمة الصديقة والحليفة لهم. أما موسكو فتصريحاتها منذ البداية كانت افضل من التصريحات الغربية في رفض الانقلاب، ربما لان هناك تشابهاً بين بوتين واردوغان كاثنين يحكمان بالديموقراطية بيد غليظة، ولعل بوتين رأى أن ما يهدّد اردوغان قد يهدده هو الآخر» لافتاً الى «ان الخلاف بين الروس والاتراك هو فقط في سورية».صحيح ان الاحزاب التركية توحدت ضد الانقلاب لكن ماذا تعني حركة عسكرية بهذا الحجم؟ حسب خاشقجي هي «الهبة الاخيرة للعلمانية الاتاتوركية المتطرفة وكانت هبة انتحارية. سوء تخطيط مع قدر كبير من الكراهية والازدراء للشعب والقيم، ولم يسبق ان وقع انقلاب من الانقلابات التركية بهذا القبح. نعم هي معارضة، لكن في اميركا مثلاً معارضة لا ترقى الى ان يقتل أميركي أخاه. المسافة بين اليمين واليسار في اليونان هائلة جداً، لكن لم يحمل اليمين اليوناني السلاح على اليسار».وبعد فشل محاولة الانقلاب، هل خرج اردوغان مصاباً بجروح أم أكثر قوة؟ اجاب خاشقجي: «أكثر قوة. فالانقلاب حقق لأردوغان ما يطمح له وما يريده وما يسعى له، وهو اختصر عليه مدة زمنية ومعركة كبيرة هي معركة تصفية الدولة الاتاتوركية العريقة. وحملة الاعتقالات الواسعة التي شرع بها هي لتصفية تلك الدولة». وأضاف: «كما ان للانقلاب انعكاساً على قضايا العرب لاسيما القضية السورية حيث أعتقد ان الاتراك سينسحبون. نعم الدعم للثوار سيستمر لكن الجيش التركي ضعف بحيث لا يتوقع احد ان يكون له دور في الاشهر المقبلة، اذ على اردوغان الآن ان يعيد ترتيب الجيش وينصرف فقط الى داخل تركيا».وماذا عن التحذيرات الغربية من جنوح اردوغان نحو القمع؟ اجاب: «هذه فزلكة غربية. الذي حصل في تركيا انقلاب واسع، ضخم وعنيف، وهناك جيش استخدم الطائرات لقصف مؤسسات مدنية. الفرنسي لا يستطيع ان يتخيّل طائرات ميراج تابعة لسلاح جوه وهي تقصف البرلمان، هذا يُعتبر كابوساً من الدرجة السابعة، لكن هذا ما حصل في انقرة. الطائرات قصفت البرلمان، والجيش أطلق الرصاص على المدنيين وهذه جريمة في العرف الغربي، حيث وصل عدد الضحايا منهم لنحو 200».ولفت الى «ان هناك من اعطى الطائرة التي تقلع من المطار إذناً كي تقصف وهناك مَن زوّدها بالوقود ومَن وفّر لها خدمات لوجيستية. وبالتالي لن يعتقل فقط الطيارون انما الاشخاص الذين كانوا خلفهم، وهذه الاعتقالات هي رهن التحقيق. اليوم المعارضة التركية نفسها تمارس حريتها وتقول نرجو الا يُظلم احد في الاعتقالات مع تأييد الجميع للاجراءات المتخذة».من جانبه رأى المحلل السياسي الروسي يفغيني سيدورف أنه «في رأي محللين هناك فرضيتان، أولاً، إما أن يكون اردوغان متورّط وعلى علم مسبق بوضع بعض المحيطين به خطة الانقلاب شرط ان يكون انقلاباً تحت السيطرة، والفرضية الثانية، ان الانقلابيين أعدوا العدة بشكل غير دقيق ولم يأخذوا عوامل عدة في الاعتبار. وفي الحالتين خرج اردوغان قوياً بعد فشل الانقلاب فقد خدم مصلحته، وقد رأينا الحشود التي تجمعت في الساحات بعد دعوته لها للنزول الى الميادين. لكن من ناحية ثانية وعلى عكس ذلك، توترت علاقاته بالدول الغربية بعد مطالبته بإقرار حكم الاعدام، وهو ما يتعارض مع المعايير الغربية، ولذلك تتعالى الاصوات في الغرب لعدم السماح لتركيا بالانضمام الى الاتحاد الاوروبي حتى ان البعض يقترح انه لم يعد لها مكان في حلف الناتو».وعما اذا كان بالامكان التخطيط لاي انقلاب من دون ارادة خارجية، اجاب سيدروف: «من الصعب الحكم على ذلك ما لم تتضح الامور والتفاصيل المتعلقة بالمحاولة، فهناك نقاط غامضة وبقع سوداء في ما يتعلق بحيثيات الانقلاب، والغموض يكتنف الأجواء التي سادت في تركيا تلك الليلة وما جرى خلال الايام التالية».روسيا حسب سيدروف، «قد تستغل المحاولة الفاشلة لتوطيد علاقتها مع تركيا وتقريب مواقف البلدين ازاء الملف السوري الذي كان يشكل سابقاً حجر عثرة في العلاقات المتأزمة والمتوترة أصلا بين البلدين لاسيما بعد اسقاط تركيا للطائرة الروسية في نوفمبر من العام الماضي». واضاف: «قبل الانقلاب بايام اعتذر اردوغان من روسيا، حيث لاحت في الأفق علامات التطبيع في شكل سريع جدا، وجاءت محاولة الانقلاب لتلعب دوراً ايجابياً ان صح التعبير في ما يتعلق بتحسين العلاقات بين البلدين، كما ان الجميع يعلمون ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقف بحزم ضد اي محاولة انقلاب او زعزعة الوضع في اي بلد وهو دائماً يصر على ان تبدي المعارضة رأيها ضمن الأطر القانونية. وما رأيناه في تركيا خرْق للقانون وبالتالي محاولة حتى لو نجحت لم تكن لتلقى ترحيباً روسياً».وعن مستقبل تركيا بعد الانقلاب، لفت الى انه «في الداخل نرى ان شعبية اردوغان بلغت ذروتها، لكن هذا لا يلغي وجود فئات واسعة من الأتراك من مختلف القطاعات السياسية والعسكرية والاعلامية تعارض سياسته، وبالتالي لا يمكن القول ان هذه القضية قد انتهت كما لا يمكن اعتبار هذا الانقلاب محور القضية. أما في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، فلا وقت كافياً لاردوغان ولحكومته للتركيز عليها، وهذا ربما لمصلحة روسيا كدولة داعمة للنظام السوري، وأعتقد ان تركيا ستقلل من اهتمامها بالملفات الدولية ومنها الملف السوري. وهذا لا يعني ان سياستها تجاه ذلك البلد ستتغير كلياً، لكن لا أستبعد ان يكون هناك نوع من التراجع عن السياسة السابقة التي كانت تنتهجها، أضف الى ذلك ان هناك اصواتاً من داخل تركيا تطالب بتطبيع العلاقات مع سورية».