لئن أصبح العالم كما يقال «قرية صغيرة» بفضل التكنولوجيا الحديثة، المتمثلة بوسائل الإعلام والاتصال (المرئي والمسموع والمكتوب)؛ ففي الوقت ذاته اتسعت فضاءاته المعرفية، فوجدنا أنفسنا أمام ثقافات متعددة لمجتمعات متباينة من حيث اللغات والعادات والتقاليد، وأصبح لزاما علينا أن نعيش هذه المرحلة ونتفاعل مع معطياتها بتعريف للثقافة قد يكون بسيطا في صياغة كلماته، إلا أنه وبلا شك سوف يكسر حاجز الخوف من ثقافة الآخر، فأنا أنظر للثقافة على أنها: احترام ثقافة الآخر: ولأن الإنسانية - في نظري - هي إحساس وشعور بالآخر، وهي مبادئ وقيم ومثل عليا، وهي مراعاة للمواقف والظروف، وهي مشاركة وجانية في الأفراح والأتراح، وهي شفافية ومصداقية في التعامل، وهي تحنان وعطف، وهي أمل وتفاؤل، وهي تقاسم وإيثار، وهي مجموعة من الصفات التي يتحلى بها البشر؛ أردنا أن نجد وسيلة اتصال قوامها ما سلف، لكي نلبي رغبة الدول العربية والإسلامية بالمحافظة على تراثها وموروثها الإنساني والثقافي والحضاري، وبما يلبي طموح الدول العربية والإسلامية في امتطاء صهوة الحضارة العالمية المعاصرة والاستفادة منها وممازجتها مع ما لدينا من حضارة وثقافة، والمحافظة على أصالتنا، وأمل الدول العربية والإسلامية في غد مشرق يخدم الإنسانية قاطبة تحت ظل التعايش السلمي؛ فلم نجد أفضل من تقديم (آراء وأفكار) وسيلة للتواصل الثقافي بين الأمم والشعوب.ما معنى أن تكون هـُويـّتنا إنسانية ؟ وكيف تكون هـُويـّتنا وثقافتنا إنسانية ؟ ومن أين أتت إلينا هذه الإنسانية ؟ يقيني بأن لكل إنسان هـُويـّته التي تمـيـّزه عن الآخر وهذا ينطبق على المجتمعات والدول والأمم والشعوب، وتظل الهـُوية هـُوية واحدة لا تتجزأ، وهي الوعاء لهذا التميز سواء أكان تمـيـّزاً:دينيـًّا؛ وفي ذلك يقول الباحث التونسي توفيق بن عامر «العقيدة التي نشأت في أحضانها وتشرّبت قيمها وتشبـّعت بمبادئها هي سبيلك إلى فهم الوجود من حولك، كما أن دينك تغلغل في كيانك حتى يصير له طبيعة ثانية، والمقـدّس جزء من الكيان يذود المرء عنه كما يذود عن كيانه»،أم لغويـًّا؛ وفي هذا يقول الباحث السوري الدكتور محمود السيد: «اللغة الأم هي هـُويـّة المرء، وهـُويـّة الأمة التي ينتسب إليها، وهي محور المنظومة الثقافية المتجذرة والأصيلة بلا منازع، وإذا ما فقد أي شعب لغته الأم فإن ذلك سوف يؤدي لا محالة إلى طمس ذاتيته الثقافية، وفقدانه هـُويـّـته الممـيزة لأن اللغة جنسية من لا جنسية له، إنها وطن، ومن فقد لغته فقد وطنه»، أم قوميـًّا؛ لئن تعددت الجنسيات داخل الهـُوية الإسلامية، ولئن انقسمت الأمة العربية إلى دول ودويلات؛ فهذا لا يعني فقدان القوميات بين هذه الدول والدويلات. نعم هناك انفتاح على العالم الآخر، هناك عولمة أذابت فوارق الزمن وغـيّرت ملامح المجتمعات، إلا أن القوميات العربية قائمة في ذاتها وكيانها وانتمائها، يقول فضيلة الشيخ الجزائري عبد الحميد بن باديس «إن الفرد منظور إليه في النظر الاجتماعي العام بما ينظر به إلى أمته سواء أساواها في المستوى الذي هي فيه من رقي وانحطاط أم كان أسمى منها أو أدنى فقيمته في النظر الاجتماعي هي قيمتها، وهذا معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرالجسد بالحمى والسهر»، وهو عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث الشريف قد نبـّه في ارتباط كل فرد بأمته ارتباط الجزء بالكل».ويقول الباحث المصري الدكتور أحمد أبوزيد: «الهوية ليست مجرد حمل جنسية الدولة التي يعيش فيها الشخص، وإنما هي شعور بالانتماء والولاء وتقبل للقيم والأفكار، واتباع أساليب الحياة السائدة في المجتمع، ومشاركة وجدانية في آمال وطموحات المجتمع، واندماج فيزيقي وعاطفي وفكري مع بقية السكان والمواطنين».أم وطنيـًّا؛ فالوطن مهما صغر أو كبر يظل ملاذا وكرامة للإنسان الذي نشأ فيه وترعرع بأحضانه؛ و في هذا يقول الباحث التونسي توفيق عامر «الإنسان أي إنسان ينتمي أولا إلى أرض، وثانيا إلى مجموعة بشرية وهذه من الثوابت في هـُوية الفرد والجماعة، فأرضك لا يمكنك أن تستعيض عنها بأخرى إلا مكرها أو بصفة موقتة، والأرض السليبة معناها ومغزاها تشرد وشتات وتهديد للهـُوية، ولذلك يقع الإعلاء من شأن النضال من أجل الوطن ويعتبر حب الوطن عاملا من عوامل ترسيخ الانتماء وتجذير الأصالة واستكمال الهـُوية، فالأرض إذن بالنسبة إلى الإنسان قطعة من الكيان وجزء من الوجدان والمحضن الأول الذي تنمو فيه مكونات الشخصية».أم تربويـًّا؛ فمنذ العصر الجاهلي كانت للعرب خصال حميدة عرفوا واشتهروا بها بين الأمم منها: الوفاء، النخوة، الالتزام، الصدق، الأمانة، العهد، الشجاعة، الضيافة، حسن الاستماع، جزالة اللفظ، طلاوة الحديث، الفراسة والنباهة، التوق إلى العلم والمعرفة. وقد ظهر ذلك جليـًّا في أشعارهم وخطبهم؛ وبذلك ملكوا ناصية الفصاحة والبيان والبلاغة، وعندما جاء الإسلام أبقى على كل هذه الخصال الحميدة، بل وحـث عليها فغدت مكونا من مكونات هـُوية العربي المسلم، وبعد ذلك صارت منهجا في تربية النشء؛ فالتربية عامل مهم في تكوين الهـُوية.أم ثقافيـًّا واجتماعياًّ؛ الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، قابل للتفاعل مع أدوات الطبيعة ولديه قدرة كبيرة على إيجاد حـيـّز له على هذه الأرض، يقول الباحث المغربي عبد الإله بن عرفة «الحديث عن هـُويـّة الفاعل الاجتماعي يضعنا رأسـاً في إطار العلوم الإنسانية وليس في إطار العلوم الطبيعية أو الفيزيائية. فالفاعل الاجتماعي يختلف عن موضوع هذه العلوم الأخيرة لأن له شعوراً معيناً في أوضاع معينة ووعيـاً خاصا بذاته وبالظواهر من حوله، إضافة إلى كونه يتمتع بمقدرة عقلية للتفكير، وله رهانات حياتية ومشاريع ورؤى معينة. كما أنه يتمتع بإرادة إنسانية للفعل». والمجتمعات مكملة لبعضها، متجانسة في سبل العيش وموارد الرزق، فلا وجود لمجتمع لا يتفاعل أفراده مع بعضهم البعض، ومع من يحيط بهم.والثقافة الإسلامية كما يراها الباحث المصري الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح: «هي ثقافة خير أمة أخرجت للناس، تميـّزت بعقيدتها، ومنهجها، وقيمها، وأهدافها، وكانت هذه الثقافة عاملا أساسيا في إيجاد الأمة التي احتلت مركز القيادة الفكرية والزعامة السياسية، والصدارة العلمية في العالم مدة أربعة عشر قرنا من التاريخ البشري». اسمع معي هذه الحادثة التي ذكرها المحقق الجزائري عبد الباقي مفتاح عن العالم جلال الدين ( ت: 672 )؛ لكي تعرف معي قيمة الإسلام ومكانته «لما خرجت جنازة العالم جلال الدين ازدحم عليها أهل البلدة، وشيـّعها حتى النصارى واليهود وهم يتلون الإنجيل والتوراة، وكان المسلمون ينحونهم فلا يتنحون، وبلغ ذلك حاكم (قوينة)، فقال لرهبانهم؛ ما لكم ولجنازة عالم مسلم فأجابوه: «به عرفنا حقيقة الأنبياء السابقين، وفيه رأينا الأولياء الكاملين». يقول الحق تبارك وتعالى: ?وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ? فصلت: 34.* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com
محليات - ثقافة
مثقفون بلا حدود
هويتنا وثقافتنا إنسانية (أفكار وآراء)
د. فهد سالم الراشد
10:12 ص