| القاهرة - من مختار محمود |
أن يفجع المرء بناظريه فيرتد ضريرا... بعد أن كان بصيرا، وأن يغلق عليه «العمى» سراديبه الموحشة... فهذا ابتلاء ينوء بفظاعته صناديد الرجال.
وإن كان هناك من يستشعر في نفسه براكين الغضب، ويشعر أن حياته صارت مؤجلة أو بلا قيمة... فهناك أيضا من لا يرفع الراية البيضاء، أو يعلن الاستسلام أو يخشى المواجهة، بل يرى أنه في حرب ضروس يجب أن يحسمها لنفسه في النهاية، حتى يخرج منها مظفرا منتصرا.
ولكن أين لمثل هذا الإنسان... الذي سُلب بصره... فلم يعد يرى إلا ظلاما. تلك القوة التي تصدُّ عنه رياح اليأس الهوجاء التي تعوي وتدوي وتصفّر، وتشن هجماتها الشرسة عليه، محاولة دك معاقل توازنه، وإلقاءه في الهوة السحيقة، هوة الضياع والقنوط وعدم الرضا عما كتبته له الأقدار؟
تلك القوة... سنلمسها عن قرب في 15 شخصية... ابتلاهم الله بالعمى، ولكنهم تغلبوا على محنتهم، وقهروها، وتألقوا وأبدعوا في مجالات مختلفة، وحققوا شهرة طاغية، أبقتهم في ذاكرة التاريخ، وستبقيهم عقودا وقرونا مُثلا عُليا في الإرادة والصمود والصبر وتجاوز أقصى العقبات وأعنفها.
من أجل ذلك... فإن مسلسل صحافي يتناول «عميان قهروا الظلام»... ليس للتسلية... بل قد يكون دروسا عملية في القوة والتحدي والإرادة وعدم الخضوع والخنوع والإقبال على الحياة، مهما اعترضتنا من رياح عاتية وعواصف عنيفة وبراكين غاضبة.
أبطال هذه الحلقات... أبطال حقيقيون... جديرون بالخلود والتقدير والثناء المستمر، لأنهم صنعوا ما يراه المبصرون إعجازا ومستحيلا.
فمن يتخيل أن يصير الكفيف مصورا بارعا، يقيم المعارض، ويحصد الجوائز، ويحاضر في كبريات الجامعات؟
وكيف للعقل أن يقتنع بأن كفيفا يغدو رساما مشهورا، تتفوق أعماله على أقرانه ممن لم يحرموا نعمة البصر؟
ولكن هناك بالفعل من فعلوا ذلك وأكثر... فحين يعزف المأسور حبيس الإعاقة على أوتار الروح الوثابة العصيّة على الاندحار تنسال ألحانه دررا من سحر الإيقاع، تنتشي لها النفوس الظمأى
ومن لوعة الحرمان وتباريح العاهة... ينبجس التصميم على المواجهة ومن حلكة الظلمات... يُشرق مهرجان الإبداع والتألق والتوهج.
هكذا فعل أبطال تلك الحلقات... أبوالعلاء المعري وهيلين كيلر ونزيه رزق وإسماعيل المسعودي... وغيرهم.
ولكن المحزن حقا... أن أعداد العميان على مستوى العالم في اطراد... ولم يتوصل العلم الحديث - حتى الآن - إلى الوسائل التي تمكنه من مواجهة العمى... حيث يعاني 37 مليون شخص من العمى و124 مليونا من ضعف البصر، وسيصبح عدد العميان في العالم بعد 12 عاما 75 مليونا... وهو ما يتطلب تضافر جميع الجهات المعنية، ومنها - منظمة الصحة العالمية - من أجل حشد المزيد من الجهود في سبيل الوقاية من العمى... وفي السطور التالية... حكايات إبداع وتألق... وانتصارات عبرت الانكسارات.


لم يكن الصحابي الجلل الكفيف عبد الله بن أم مكتوم... مجرد واحد من صحابة الرسول الكريم «صلى الله عليه وسلم» بل جسد حالة انسانية استثنائية فريدة من نوعها، لأنه لم يركن الى اعاقته البصرية، ويتخذ منها حجة للاستسلام والدعّة... بل كان أكثر اقبالا من غيره على طاعة الله والجهاد في سبيله.
فهو... الذي عوتب فيه النبي «صلى الله عليه وسلم» من فوق سبع سموات، وهو الذي أنزل الله في شأنه قرانا، يتلى الى يوم القيامة.
انه عبد الله بن أم مكتوم... مؤذن الرسول «صلى الله عليه وسلم»- وكان رضي الله عنه - قرشيا، تربطه بالرسول صلة رحم، فقد كان ابن خال أم السيدة خديجة بنت خويلد... رضي الله عنها.
شهد ابن أم مكتوم... بعثة النبي الكريم في مكة، فشرح الله صدره للايمان، وكان من السابقين الى الاسلام، وعاش محنة المسلمين في مكة، فصبر وثبت أمام الابتلاءات، فلم تلن له قناة، ولا ضعف له ايمان.
كُف... وهاجر
وقد بلغ من ايمان ابن أم مكتوم، وحرصه على حفظ القرآن الكريم، أنه ما كان يترك فرصة الا اغتنمها، ليتعلم من النبي «صلى الله عليه وسلم» قراءة القرآن الكريم.
ولد ابن أم مكتوم مبصرا لكنه سرعان ما فقد بصره، وهاجر الى المدينة المنورة بعد مصعب بن عمير، قبل أن يهاجر اليها النبي «صلى الله عليه وسلم» وقبل بدر... قال البراء: «أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وسلم» مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يُقرئان الناس القرآن».
ولما هاجر رسول الله «صلى الله عليه وسلم» الى المدينة وبني مسجده الشريف، وشرع الأذان في السنة الثانية للهجرة... اتخذ الرسول الكريم ابن أم مكتوم وبلال بن رباح مؤذنين له، فكان بلال يؤذن في المسجد للصلاة، وابن أم مكتوم يقيم لها... فكان عبد الله وبلال أول مؤذنين في الاسلام.
وفي شهر رمضان... كان بلال يؤذن بليل ويوقظ الناس، وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر، لا يخطئه، فيمسك الناس عن الطعام بأذانه... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«ان بلالا بلبل ينادي فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم».
وكان رسول الله «صلى الله عليه وسلم» يستخلف ابن أم مكتوم على المدينة في تلاواته، فيصلي بالمسلمين، ويتولى أمورهم.
وكان رضي الله عنه يرغب في الجهاد، غير أن فقدان بصره كان يمنعه من ذلك، وان كان قد نال الشهادة كما كان يرغب ويمني نفسه، في معركة القادسية في العام «14» هجريا، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب «رضي الله عنه».
عتاب الله لرسوله
أنزل الله تعالى في عبده المؤمن بن أم مكتوم قرآنا يتلى الى يوم القيامة، ذلك أن الرسول الكريم «صلى الله عليه وسلم» كان كثير التصدي لسادات قريش، وشديد الحرص على اقناعهم بالاسلام... فالتقى ذات يوم بعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وعمرو بن هشام المكنى بـ «أبي جهل»، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة... وأخذ يفاوضهم ويناجيهم ويعرض عليهم الاسلام، وهو طامع في أن يستجيبوا له، أو يكفوا أذاهم عن أصحابه، وفيما هو كذلك... أقبل عليه عبد الله بن أم مكتوم... يستقرئه آية من كتاب الله، ويقول: «يا رسول الله - علمني مما علمك الله - فأعرض الرسول الكريم عنه، وعبس في وجهه، وتولى نحو أولئك النفر من قريش، وأقبل عليهم، آملا في أن يسلموا، فيكون اسلامهم عزا لدين الله، وتأييدا لدعوة رسوله، وما ان قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه معهم، وأراد أن يذهب الى أهله، حتى أمسك الله عليه بعضا من بصره، وأحس كأن شيئا يضرب برأسه.
ثم أنزل الله قوله تعالى: «عبس وتولى، ان جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى، فأنت له تصدى، وأما من جاءك يسعى، وهو يخشى، فأنت عنه تلهى، كلا انها تذكرة. فمن شاء ذكره. في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة، كرام بررة».
ومنذ ذلك اليوم... ما فتى والرسول الكريم يكرم نزل عبد الله بن أم مكتوم، ويدنيه من مجلسه اذا أقبل، ويسأله عن شأنه، ويقضي حاجته.
وقد بلغ من اكرام النبي «صلى الله عليه وسلم» لابن أم مكتوم... أن استخلفه على المدينة عند غيابه عنها بضع عشرة مرة، وكانت احداها يوم غادرها لفتح مكة.
رغبته في الجهاد
في أعقاب غزوة بدر... أنزل الله على نبيه الكريم من آيات القرآن ما يرفع شأن المجاهدين، ويفضلهم على القاعدين، لينشط المجاهد الى الجهاد، ويأن القاعد عن القعود، فأثر ذلك كثيرا في نفس ابن أم مكتوم، وعزّ عليه أن يُحرم من هذا الفضل، وقال: يا رسول الله... لو أستطيع الجهاد لجاهدت، ثم سأل الله بقلب خاشع... أن ينزل في شأنه وشأن أمثاله، من تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد قرآنا، وأخذ يدعو في ضراعة... ويردد في خشوع: «اللهم أنزل عذري... اللهم أنزل عذري» فأنزل الله تعالى قوله: «لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله» - النساء 95.
وبالرغم من أنه أعفي وأمثاله من الجهاد... فقد أبت نفسه أن يقعد مع القاعدين، وعقد العزم على أن يكون مع المجاهدين، وحدد لنفسه وظيفتها في ميدان القتال... وكان يقول:«أقيموني بين الصفين، وحمّلوني اللواء أحمله لكم وأحفظه، فأنا أعمى لا أستطيع الفرار».
اخلاصه في الطاعة
كان ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - صواما قواما، لم يره أحد الا في عبادة، ولم يمنعه أنه أعمى أن يدافع عن رسول الله «صلى الله عليه وسلم»، ويدفع عنه ما يؤذيه... فعن عبد الله بن معقل... قال: نزل ابن أم مكتوم على يهودية بالمدينة، كانت ترفقه وتؤذيه في النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتناولها فضربها فقتلها، فرفع ذلك الى النبي فقال: أما والله... ان كانت لترفقني ولكن آذتني في الله ورسوله، فقال النبي «صلى الله عليه وسلم»: «أبعدها الله، قد أبطلت دمها».
المعركة... والشهادة
في العام الرابع عشر للهجرة... عقد خليفة المسلمين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - العزم على أن يخوض مع الفرس معركة فاصلة، تزيل دولتهم وتقوض دعائم ملكهم، وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين، فأمّر الفاروق على جيش المسلمين الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، ووصاه وودعه، ولما بلغ الجيش القادسية... برز عبد الله بن أم مكتوم لابسا درعه، مستكلا عدته، وندب نفسه لحمل راية المسلمين والحفاظ عليها، أو الموت دونها، والتقى الجمعان في أيام «3» قاسية عابسة، فكانت حربا، لم يشهد لها تاريخ الفتوح مثيلا، حتى انجلى الموقف في اليوم الثالث عن نصر مؤزر للمسلمين، وكان ثمن هذا النصر المبين مئات الشهداء، وكان من بين هؤلاء الشهداء الأبرار عبد الله بن أم مكتوم... رضي الله عنه... فقد سقط صريعا مضرجا بدمائه، معانقا راية المسلمين.
جبريل وعده بالجنة
وفي الطبقات الكبرى... ورد عن ابن أم مكتوم... أنه أسلم بمكة قديما، وأنه كان ضريرا، وقدم المدينة مهاجرا بعد بدر بوقت يسير، وكان يؤذن للنبي «صلى الله عليه وسلم» مع بلال بن رباح رضي الله عنه، وكان رسول الله يستخلفه على المدينة يصلي بالناس في عامة غزواته... فعن الشعبي قال: غزا رسول الله «صلى الله عليه وسلم» ثلاث عشرة غزوة، ما منها غزوة الا يستخلف ابن أم مكتوم على المدينة، وكان يصلي بهم وهو أعمى.
وعن أنس بن مالك قال:«ان جبرائيل أتى رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وعنده ابن أم مكتوم، فقال: متى ذهب بصرك؟ قال: «وأنا غلام، فقال: قال الله تبارك وتعالى «في الحديث القدس»: اذا ما أخذت كريمة عبدي، لم أجد له بها جزاء الا الجنة».
وبالرغم من ظروف ابن أم مكتوم... الا أن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» رفض أن يمنحه رخصة الصلاة في البيت ليلا... ففي الحديث: ان ابن أم مكتوم أتى الرسول على «صلى الله عليه وسلم» فشكا له قائده... وقال: ان بيتي وبين المسجد شجرا فقال رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: تسمع الاقامة؟ قال: نعم... فلم يرخص له.
وعن جابر الأنصاري قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل كلاب المدينة فأتاه ابن مكتوم فقال: يا رسول الله: «ان منزلي شاسع وأنا مكفوف البصر ولي كلب... فرخص له أياما ثم أمر بقتل كلبه».
سورة عبس
وليس من شك في أن سورة «عبس» خلدت ذكر ابن أم كتوم الى أن يرث الله الأرض ومن عليها... فكما يقول العلامة محمود مشوح: ان الناظر في ثنايا هذه السورة لن يعجب هذا اليوم حين يلاحظ أن الاسلام... ينسل الى الناس هينا لينا طريا، وأنه يحتل منها أعماق الأعماق، لأن هذا الاسلام بتعليماته وتوجيهاته وبدروسه البليغة التي يقود بها الأمة ممثلة بشخص نبيها... تتسق وتتجاوب مع أعمق أعماق الفطرة الاسلامية، من غير أن تحدث فيها صدمات.
وفي آيات سورة «عبس»... نلمس هذا النغم الرقيق الذي يساق مساعد العتاب الممزوج بالتعليم والتوجيه، ولكنه النغم الذي يلامس الحس ويخالط العقل والقلب، والذي يشد الانسان شدا الى قضايا تحتل مكان الصدارة في سياق الدعوة، والتي تشكل الغفلة عنها تغريرا لمستقبل الدعوة.
غضب وضيق
وان كان النبي الكريم تأذى شيئا قليلا من الحاح ابن أم مكتوم الذي أتاه في وقت غير مناسب... الا أنه لم يقل ما يغضب الصحابي الجليل، ولكن بدت ملامح وجهه معبرة عن هذا الغضب والضيق... لم يرها «ابن أم مكتوم»،
ولكن الله رآها من فوق سبع سموات، وبعدما أنهى النبي الكريم جولته مع سادة قريش... انصرف عائدا الى بيته، فألقى الله عليه ما يشبه النوم، ثم جاءه الوحي بسورة «عبس»، كاشفا له عن خطأ الأسلوب الذي تصور أنه الأجدى والأفضل.
اننا أمام واقعة معروفة الشخوص معروفة الحدود... فنحن أمام زمرة من زعماء مكة... كان النبي حريصا على دعوتهم الى دينه... وأمام رجل من ضعفاء الناس أعمى ضرير... وأمام حادثة معروفة الحدود، وأمام واقعة بيدة التاريخ... أن النبي «صلى الله عليه وسلم» رجا شيئا، وجاءه العتاب في حينه، يكشف له فشل هذا الشيء الذي رجاه، واذا تركنا السورة كلها جانبا... واكتفينا بامساك الخيط الواقع بالحادثة الملموسة فسوف نرى عجبا من أعاجيب الله جل وعلا... وسرا من أسرار اعجاز هذا الكتاب الكريم.
القادسية... والرحيل
ولو لم يكن ابن أم مكتوم رجلا صادق الايمان، مكتمل العقيدة، وأن الاسلام ملأ عليه جوابر، واستقر في فؤاده، ورسخ في عقله، ما عاتب الله تعالى نبيه الكريم فيه على هذا النحو.
ولو لم يكن ابن أم مكتوم رجلا صادق الايمان... ما انهمرت الدموع من عينيه المكفوفتين... عندما نزل قرآن يميز بين المجاهدين والقاعدين... فمثله ضرير... لا يقدر على الجهاد في ميادين القتال، ولم تهدأ نفسه حتى نزلت الآية «95» من سورة النساء، وتستثني من هؤلاء أولى الضرر.
وبالرغم من كل ذلك... لم يستسلم ابن أم مكتوم، وخاصة في معركة القادسية، ونال الشهادة... ليقدم دليلا عمليا على حسن ايمانه، وعلى أحقيته في تعاطف السماء معه.
تبدأ المسيرة العظمى التي حطمت ركائز العالم القديم، عندما يسيّر عمر بن الخطاب جيوشه الى القادسية لكي يحطم ملك كسرى، من كان في الجيش؟ الأعمى ابن أم مكتوم، كان واحدا من جند سعد في معركة القادسية، بعد أن شاب وكبر سنه، والمعروف أن الشيوخ يعفون من الجندية، فاذا أضفت الى ذلك فقد البصر عجبت، كيف يخرج انسان مثل هذا الأعمى لكي يقاتل؟ وما غناؤه للقتال؟ ما الذي يستطيع أن يفعله؟ لكن ابن أم مكتوم يعرف مكانه في جيش المسلمين، ويعرف موقعه في المعارك الفاصلة التي تتقرر فيها مصائر الاسلام لا بل تتقرر فيها مصائر البشرية، أساليب الناس في القتال في السابق... أن الجيش ثابت في مكانه، طالما أن حامل اللواء «أي العلم» ثابت في مكانه، فاذا سقط العلم سقط الجيش، ولهذا يختار حين تكوين الجيوش لحمل الألوية أشجع الناس وأقدرهم على الصبر والثبات، ابن أم مكتوم... حين سار الجيش الى العراق استأذن عمر لكي يخرج مع الجيش.
الله أعلم أي خواطر نبيلة تلك التي كانت تتخالج في نفس ابن أم مكتوم، لكنه بالتأكيد كان يعرف مكانه في الجيش... قال لهم: اذا تواقفتم للقتال فأقيموني بين الصفين، وسلموني اللواء، فاني رجل ضرير البصر لا أقوى على الفرار... مكان محدد، ان الانسان المبصر يرى خصومه بعينيه ويقدر ظروف المعركة تقديرا ويرى على من تكون الدائرة وعلى من يكون النصر، فهو يتفاعل مع هذا الذي يراه، ويتحرك وفاقا مع هذا الذي يراه، ولكن الأعمى محجوب عن هذا كله، فوظيفة ابن أم مكتوم... حددها هو بنفسه، هي أن يحمل اللواء للمسلمين وأن يظل ثابتا لأنه أجدر جنود الجيش، كي يبقى ثابتا باعتباره لا يرى من حوله شيئا، ولو حدثته نفسه بالفرار لن يقوى على الفرار، أين يذهب؟ أيذهب يمينا، فلعل العدو في اليمين... أيذهب شمالا؟ فلعل العدو في الشمال... وهكذا... فهو المرشح أن يمسك اللواء للمسلمين امساك من لا يفر ولا يقدر على الفرار.
ودارت المعركة
ودارت المعركة، ويحدثنا أنس بن مالك صاحب النبي «صلى الله عليه وسلم» فيقول: رأيت ابن أم مكتوم يرحمه الله يوم القادسية بين الصفين، في يده علم أسود وهو يلبس درعا له، وأول يوم تعادلت الكفتان، وثاني يوم بدأت رياح النصر تهب، وفي اليوم الثالث كتب الله للمسلمين النصر، وتحطم ملك كسرى، وذهب المسلمون يلتمسون الجرحى والقتلى، كان بين القتلى ذلك الذي شهد له القرآن منذ وقت مبكر أنه على هدى، وأنه يخشى، كان ابن أم مكتوم صاحب محمد ومؤذن محمد، والرجل الفاضل المفضل شهيدا في معركة القادسية... أين هذه الخاتمة من خواتيم زعماء قريش الذين نقلهم النبي الكريم في حديثه عن صاحبه ابن أم مكتوم... قعصت الرماح بهم قعصا وجزرتهم السيوف جزرا في معارك دارت عليهم وقضوا وهم كافرون، الدنيا خسروها، والآخرة خسروها، وأسوأ ما كان أن أمية بن خلف هذا الذي طغى وتجبر، حينما كان النبي «صلى الله عليه وسلم» يسير في الدعوة في شعاب مكة يقول له يا محمد... ان عندي فرسا لي أعلفه كل يوم فرقا من ذرة سأقتلك عليه، فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم -: بل أنا أقتلك ان شاء الله.
ذهب عتبة وربيعة وأبو جهل في معركة بدر... قتلى غير مأسوف عليهم، جُروا من أرجلهم كما تجر الكلاب، وألقوا في قليب بدر، وكان أمية ممن حضر معركة أحد، فلما هجم على النبي «صلى الله عليه وسلم» أراد بعض المسلمين أن يتصدى له، فقال «عليه السلاة والسلام»: خلوا عنه، ثم تناول سهما فضربه وخدشه في رقبته خدشا بسيطا جدا، فذهب يعوي عواء الكلب ويقول قتلني محمد... ينظر الناس اليه فلا يرون فيه شيئا، يقولون له: يا هذا ليس بك بأس، فيقول: انه كان يقول لي: بل أن أقتلك ان شاء الله، والله لو بصق عليّ القتلى.
فابن أم مكتوم مات شهيدا بين الصفين يحمل لواء الايمان للمسلمين، أين عواقب الناس؟ كيف تختلف العواقب، كيف تتفرق بهم السبل؟ وهم يخضعون لتجارب واحدة.