تحت هذا العنوان نعرض لحلقات يومية متتابعة على مدار أيام الشهر الفضيل، نقدم من خلالها وصفاً للأيام الاخيرة في حياة بعض الشخصيات التي كان لها اثر واضح في تاريخ الأمة الاسلامية، لنتخذ منها العبرة والعظة... والله أسأل التوفيق والسداد.تكلمنا عن خُلق الرشيد ودينه وعلمه وورعه وحبه للعلم والعلماء وتقديره لهم، أما جهاد الرشيد فهو جهاد دائم، إنه جبار بني العباس.في سنة 187هـ نقض صاحب الروم (نقفور) الصلح الذي كان بين المسلمين وبين الإمبراطورة (ايريني) بعد أن خلعها الروم وملكوه، فكتب الى الرشيد، من (نقفور) ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرُّخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثالها إليها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قِبَلك من أموالها وافتد نفسك وإلا فالسيف بيننا وبينك.فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب ودعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب. بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم فقد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه والسلام. وسار الرشيد حتى أناخ بباب هرقلة ففتح وغنم فطلب نقفور الموادعه على جزية يؤديها كل سنة، فأجاب الرشيد إلى ذلك، فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض نقفور العهد وخان الميثاق، وكان البرد شديداً فيئس نقفور من رجعة الرشيد إليه، ولكن الرشيد كر راجعاً في أشد محنة، فلم يبرح بلاد الروم حتى رضي وبلغ ما أراد.إن سيرة هارون الرشيد - رحمه الله - سيرة طيبة عطرة سيرة رجل مؤمن ملتزم لا يحب المراء في الدين ويحب العلم والعلماء، هارون الرشيد - رحمه الله - إنسان مستقر مطمئن النفس يغضب لله في كل مرة ويتذوق الأدب الرفيع.قال (الجاحظ): اجتمع للرشيد من الجد والهزل ما لم يجتمع لغيره من بعده قال كان أبو يوسف قاضيه والبرامكة وزراءه وحاجبه الفضل بن الربيع أنبه الناس.وقال ابن طباطبا: وكانت دولة الرشيد من أحسن الدول وأكثرها وقاراً ورونقاً وخيراً وأوسعها رقعة مملكة، ولم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشعراء والفقهاء والقراء والقضاة والكتاب ما اجتمع على باب الرشيد كان فاضلاً راوية للاخبار والآثار والاشعار مهيباً عند الخاصة والعامة.ولقد حاول المغرضون وأعداء الإنسانية تشويه صورة وسيرة الخليفة المجاهد التقي الورع هارون الرشيد فصوروا حياته باللهو والعبث ولكن رد الله كيدهم في نحورهم وأبى الله عزّ وجلّ إلا أن تظهر الحقيقة واضحة فظهرت صورة الرشيد - رحمه الله - بيضاء صافية طاهرة نقية ولو كره أعداء الإسلام والمسلمين.استيقظ هارون الرشيد من نومه متكدر الخاطر بسبب رؤيا رآها في منامة ولما دخل عليه أحد وزرائه ورآه مهموماً ضائق الصدر سأله عن سبب ذلك قال الرشيد: لقد رأيت رؤيا أحزنتني سأقصها عليك: لقد رأيت كأني جالس على سرير وفجأة امتدت أمام وجهي ذراع أعرفها معرفة جيدة وامتدت كف أعرفها جيداً ولكني لا أتذكر صاحبها وكان فيها تربة حمراء وفجأة سمعت صوتاً جهورياً دون أن أرى وجه صاحبه يقول: وهذه التربة التي ستدفن فيها فقلت له: وأين هذه التربة قال: إنها في مدينة طوس، ثم استيقظت من نومي مفزوعاً. قال له وزيره: إنها أضغاث أحلام بسبب اجهادك لنفسك.وبعد مرور الأيام خرج هارون الرشيد من بغداد قاصداً خراسان لإخماد ثورة أحد الخارجين على الدولة وفي الطريق شعر بوعكة فاضطر للدخول إلى مدينة طوس للاستراحة في بستان له وفي أثناء استراحته تذكر ذلك الحلم فجأة فالتفت إلى وزيره قائلاً: أتذكر تلك الرؤيا التي حدثتك عنها منذ زمن؟قال: نعم يا مولاي. عندها سكت الرشيد لبرهة ثم نظر إلى خادمه مسرور قائلاً له: يا مسرور جئني بقليل من تربة هذا البستان، فذهب مسرور وأحضر حفنة بيده ومد كفه أمام وجه الرشيد، فلما نظر هارون الرشيد إليه قال بصوت يتهدج: والله إنها لتلك الذراع التي رأيتها في منامي وهذه الكف بعينها وهذه هي التربة الحمراء وبعدها اشتدت عليه العلة ولحق بربه ليلة السبت في الثالث من جمادى الثانية عام 193هـ وصلى عليه ابنه صالح ودفن هارون الرشيد - رحمه الله - في مدينة طوس.رحم الله هارون الرشيد وأسكنه فسيح جناته على ما قدمه من خير للإسلام والمسلمين.