| القاهرة - من نعمات مجدي |
«هل حكم أطفال أو صغار؟» وهل تقلدوا زمام الأمور ومقاليد الحكم في بلدانهم؟
سؤال قد تكون الاجابة عليه لـ «الوهلة الأولى» لا، أو لا نعرف أو قد لكن من ومتى وأين؟
ونحن نقلب في أوراق قديمة جدا أو قديمة فقط، أو حتى حديثة، كانت المفاجآت تتوالى تباعا حيث اتضح أن الكثير من هؤلاء بالفعل حكموا وصالوا وجالوا وأيضا أخطأوا وارتكبوا مخالفات أثرت على شعوبهم.
ونحن نقلب في أوراق مختلفة أتضح أن كثيرا من المجتمعات «شمالية وجنوبية شرقية وغربية» حكمت من خلال أطفال وفتيان وشبان صغار.
وجدنا هذا في الممالك القديمة «مصر والعراق» ووجدناه في العصر الإسلامي ووجدناه في أوروبا وآسيا وغيرهما.
عثرنا على ما يؤكد أن طفلا في السابعة «حكم» وأن أكبر منه بسنوات قليلة قاد بلده وأن من هم في العشرين «كثر» تقلدوا زمام الأمور.
الأمر مع غرابته لا يخلو حتما من الطرائف والعجائب والمواقف الساخنة والمعارك المشتعلة حتى إن هذه الأمور حفرت في ذاكرة الشعوب أو في مجلدات تراثية.
«الراي» قلبت كثيرا في أوراق تراثية وقديمة ومتوسطة وحديثة واقتربت من حكايات غريبة وعجيبة مع أطفال وصغار وشبان حكموا وفي السطور التالية تفاصيل كثيرة.
ونعود مرة أخرى... إلى مصر القديمة... بعد رحلة في الحلقة السابقة إلى الإمبراطورية البريطانية... وهذه المرة مع الحاكم... الذي قد يعد الأصغر بين حكام تولوا.
كان الملك بيبي الثاني محظوظا... إذ اعتلى عرش مصر وهو في السادسة من عمره... وظل يحكم حتى تجاوز المائة، وتعتبر فترة حكمه أطول فترات الحكم في مصر القديمة من أواخر القرن «23» ق. م إلى أواسط القرن الـ «21» ق. م، فحكم حوالى 94 عاما... وبالرغم من توليه المُلك صغيرا إلا أن الأمن في قصره كان مستتبا، ويرجع ذلك إلى أن «زاو» خاله ووزيره في الوقت نفسه فقد حافظ على استتباب الأمن في البلاد لمدة نصف قرن من الزمان.
كان «زاو»... وزيرا حكيما عاقلا يحسن التصرف في أمور الدولة، فلا يأخذ قرارا إلا بعد أن يفكر فيه تفكيرا عميقا، تعلم بيبي من خاله « زاو» كيف يحب شعبه، ولهذا أحبه الشعب وأخلص له.
رضع بيبي الحب والتدليل بعد وفاة أمه التي كانت وصية عليه في البداية من خالته «عنخس»... التي أصبحت أُُما له، فهي التي قامت على تربيته، ولم يعرف له أُما غيرها، وكانت تسقيه من حنانها وحبها وتدلله في سعادة وعطف.
حتى إن بيبي كان يعشق سماع عبارات التدليل من خالته «عنخس»، حتى إن الفنانين سجلوها في عصره على نقوش «وادي مغارة» تحت صورة معها حيث كشفت إحدى الروايات أنها كانت تدلله... فكانت تقول له: « ولدي الملك الصغير بيبي الجميل، يا من ملأت حياتنا بهجة وسعادة، وحافظت على تاج أبيك وأخيك... كم أتمنى أن أراك وأنت تمشي على قدميك ويملأ صوتك الآفاق فتعلم سريعا يا بني كيف تتكلم وكيف تحكم حتى تدير أمور هذه البلاد الجميلة وتستحق حب شعبها الطيب... شعب مصر العظيمُ».
يطلب الحنان
وفي هذه الأثناء دار حوار بين بيبي وخالته... حيث نظر إليها ثم جرى نحوها وقال لها وهو يرتمي في حضنها: « أماه... إنني خائف يا أماه، لا تتركيني وحدي فأنا لا أشعر بالأمان إلا وأنت بجانبي».
ربتت « عنخس» على كتفه وهي تقول: « ما الذي يخيفك يا بيبي الجميل... كلنا حولك أنا وخالك «زاو» والقائد «حرخوف».
رد بيبي قائلا: « لست أدري يا أماه كلما جلست وحدي، أشعر كأن جدران القصر ستنشق ويخرج منها مارد عملاق ليقتلني كما قتل أخي «مرن رع»... فضمته إلى حضنها كي تبعث فيه الاطمئنان وهي تقول له: « رعاك الله يا بني وأبعد عنك الأشرار وشرورهم ، دعك من هذه التخيلات، فالملك العظيم بيبي ملك قوي لا يخاف وإنما يرهب أعداء الوطن... والآن ماذا يريد ملك مصر الصغير بيبي الجميل».
الشجاعة وحب الوطن
كانت أمه تقف وراء ظهره باستمرار تربيه على الشجاعة وحب الوطن وعدم الاستسلام للعدو... فكانت دائما تدير الحوارات معه حتى يكبر وهو مؤمن بالديموقراطية، وفي إحدى المرات طلب بيبي من أمه «قزما» كالذي أحضره مساعده القائد « حرخوف»... من بلاد النوبة فردت الأم بانفعال شديد: «نحن لسنا بحاجة إلى أقزام... إن مصر يا بيبي تحتاج إلى عمالقة ليدافعوا عنها ويعمروا فيها لتكون دائما شامخة قوية قادرة على قهر أعدائها» ولكنه دافع عن القزم بقوة وحماسة.
حيث قال: « سوف ألهوا به ويسليني في وحدتي ويدافع عني وقت الشدة»... فقالت له : «لن يدافع عنك وعن مصر غيرك يا بيبي ورجالك الأقوياء الأشداء من أبناء مصر... فهم الذين ينبغي أن تحيط نفسك بهم، فتمنحهم الحب لكي يحبوك، غدا ستشب رجلا قويا فتيا يهابه الجميع ويعملون له ألف حساب ومع ذلك لك ما تريد، سأكلف القائد «حرخوف» بالذهاب إلى النوبة لإحضار القزم ».
وبالفعل سافر القائد «حرخوف»... قاصدا بلاد النوبة وتعرض في الطريق إلى أهوال كادت تقضي عليه هو ورجاله لولا مهارته وقدرته على ركوب البحر وتعوده كيف يتغلب على مثل هذه المواقف الصعبة بصبر وروية حتى وصل إلى بلاد الأقزام وسط أفريقية وأحاط به الأقزام من كل جانب، فكانوا ينظرون إليه في هلع وخوف... سار « حرخوف» وسطهم كعملاق مارد ضل طريقه وسط الأقزام... لكن «حرخوف» استطاع أن ينتقي أحد الأقزام وأتى به إلى السفينة ليهديه إلى الملك بيبى.
فمنذ صغره والملك بيبي مدلل من أمه وخاله... لا يرفضان له طلبا... وفي الوقت نفسه يربيانه على حب بلده ويعاملانه وكأنه أعظم ملوك العالم وكانا دائما ما يرددان: « إن مصر يا بيبي دولة قوية ينبغي أن يكون ملكها قويا مثلها... أما اللهو واللعب فكلها أمور طفولية لا جدوى منها ولا تليق بملك مصر».
الوريث طفلا
فكان خاله «زاو»... حاسما معه في كثير من الأمور حتى يتمكن من تربيته مثل هؤلاء الملوك... ورث بيبي الثاني العرش طفلا تسانده أمه وخاله ثم قدر له أن يحكم أكثر من تسعين عاما وهي أطول مدة حكمها ملك مصري.
حيث سارت أمور البلاد في أوائلها على النهج نفسه الذي سارت عليه في عهود أسلافه فكان دائم إرسال الحملات إلى الجنوب، وكذلك بعض الرحلات التجارية إلى بيبلوس في الشمال، فاتسم عهده بأنه كان شديد الثراء الملكي... حيث قام بتشييد هرم لنفسه أكبر من هرم أسلافه الذي اكتشفه العالم الأثري « جيكييه» بين عامي 1926 و 1936.
حيث كان يعمل في مصلحة الآثار المصرية واكتشف الهرم الذي يعود بناؤه إلى طراز الدولة القديمة... حيث تم تصميم الهرم على شكل هضبة في نهايتها الغربية نجد مدخلا صغيرا يسمح للكهنة الذين يتصادف وجودهم في أعلى الهضبة بدخول المعبد الجنائزي دون الحاجة إلى النزول إلى معبد الوادي.
حيث حرص بيبي أن يضع في مدخله حجرة للحارس الذي يحرس المكان، وبالرغم من أن جيكييه تمكن من معرفة بعض المناظر التي كانت تزين جدران الهرم من خلال دراسة بعض الأحجار المنقوشة التي عثر عليها أثناء تنظيف هذا الطريق، وبالرغم من أن هرم « بيبي» مبني بأحجار صغيرة من الحجر الجيري المحلي فإن بنيانه بوجه عام أفضل من بناية الأهرام الأخرى في هذه الأسرة... حيث إنه حتى وقتنا هذا لاتزال أحجار الكساء الخارجي للهرم الذي يصل إلى 52 مترا في حالة جيدة حتى الآن، حيث عثر « جيكييه» على آثار تثبت وجود هيكل صغير لتقديم القرابين أمام المدخل.
ولكنهم هدموا أحجاره في ما بعد أثناء عملهم في بناء الهرم واستخدموا أحجاره المنقوشة في أغراض أخرى، ويشبه هذا الهرم في نظام أجزائه الداخلية هرم بيبي الأول... إذ إن جميع ممراته وحجراته مقطوعة في صخر الهضبة.
المجموعة الهرمية
وإلى جانب المجموعة الهرمية للملك بيبي الثاني نجد أهرام ثلاث ملكات من زوجاته وهن «نيت» و «ايبوت» و«اوجيتن» والهرمان الأولان في الجهة الشمالية من هرم الملك والثالث في جنوبه وتتشابه هذه الأهرامات الثلاثة في بنائها وتصميمها الداخلي.
اتسم عهد الملك بيبي الثاني آخر حكام الأسر السادسة بالفوضى، ونظرا لطول مدة حكمه بسبب كبر سنه، أصبح غير قادر على كسب طاعة أمراء الأقاليم الذين زادت سلطتهم ولم يدينوا بالولاء للملك وامتنعوا عن دفع الجزية... ما أدى إلى ظهور الفوضى في كل مكان وأهملت القوانين وطُرد الموظفون من وظائفهم.
وازدادت سلطات حكام الأقاليم واتسعت ثرواتهم وثروات رجال البلاط الملكي وتفككت الدولة حتى أصبح في عهد بيبي وزيران، وزير للصعيد وآخر للوجه البحري، لم تكن هذه الأحوال تخلو من مظاهر الضعف... لا سيما بعد ازدياد سلطات حكام الأقاليم وازدياد ثرواتهم وزاد تمسكهم بالحكم بتوريث مناصبهم لأبنائهم واعتبروه حقا مكتسبا لهم وليس مجرد منحة من ملوكهم، بل جعلوا منصب والي الجنوب - الذي ابتدعته الحكومة المركزية للإشراف على مصالحها في الصعيد والإشراف على سياسة أمرائه - منصبا غير مهم ومنع حكام الصعيد موارد أقاليمهم عن الحكومة المركزية بالعاصمة.
فأصبحت شبه عاجزة عن تنفيذ أوامرها وممارسة تبعاتها وحقوقها، وبدأت قوافل مرتزقة تأتي من الحدود الشمالية والجنوبية للسيطرة على أطراف البلاد، وفي هذه الأثناء وقف بيبي مكتوف الأيدي لا يستطيع فعل شيء... وخاصة أن بعض المؤرخين أرجع الضعف والتحول في الأوضاع السياسية في نهاية الدولة القديمة يرجع إلى الوقت الذي صاهر فيه بيبي الأول أحد حكام أقاليمه وأنجب منه ابنتيه وولديه «هرتزع» و «بيبي الثاني»... فقد كان من الطبيعي أن يحابي أصهاره ويتغاضى عن اتساع نفوذهم... كما كان من الطبيعي لولديه أن يزيدا في محاباة أبناء أخوالهما، حيث ساهمت تنظيمات « بيبي الثاني « في التمهيد لعصر اللامركزية... حيث جعل للصعيد وزيرا وللدلتا وزيرا آخر وأسند وزارة الصعيد إلى النبلاء، وبخاصة أخواله وأبنائهم، وأسند وزارة الوجه البحري إلى رجال من البلاط المنفي.
تقاليد جديدة
كان تولي امرأة مقاليد الحكم وضعا لا تقره التقاليد، ولم يألفه المصريون القدماء في مصر القديمة، ومع عصور تعاقبه فقد كان عندما يتولى ملك ضعيف حكم البلد يقوم صراع بين قواده العسكريين أو بين أفراد من أمراء الأسرة المالكة تحسمه أميرة إما عن طريق شخصيتها أو عن طريق زواجها واتحادها مع زوج يهيئ لها الطريق للإمساك بزمام الأمور، فتتوج ملكة على البلاد أو تتوج زوجها ملكا تحكم من خلاله.
فمثلها انتهى حكم الأسرة الرابعة بامرأة هي «خنت كاوس» انتهى حكم الأسرة السادسة بامرأة هي الملكة «نيتوكريس» أو «نيت إفرت»، وكان ذلك في العام 2278 ق. م وقصة هذه الملكة أنها كانت من أميرات الأسرة السادسة التي كان حكامها من الملوك: «بيبي الأول» الذي اغتاله حراسه والملك « بيبى الثاني» الذي تولى حكم البلاد طفلا في السادسة من عمره.
ويروى أن هذا الملك حكم البلاد 94 عاما... ما يقطع بأنه في آخر أيام حكمه كان طاعنا في السن لا يقدر على الإمساك بزمام الأمور على الوجه الأكمل... فعمت البلاد الفوضى واستشرى الفساد وجاء بعد الملك « بيبي» أبناء الملوك الضعاف لم يدم حكم أيهم أكثر من عام، وانتهت الأسرة السادسة بملكة تدعى «نيت أفرت» أو «نيتو كريس» التي يذكر المؤرخون إنها كانت الابنة الكبرى للملك « بيبي الأول » ويرى آخرون إنها كانت أخت آخر ملوك الأسرة الذي كان مقتولا.
ويذكر هيرودوت أن رجال الدولة الذين اغتالوا شقيق هذه الملكة أجلسوها على عرش مصر على غير رغبتها... فقد كان ساءها اغتيال أخيها، ولكنها قبلت الحكم على أمل أن تنتقم ممن ارتكبوا هذه الجريمة في حق شقيقها، ولذلك فقد أنشأت قصرا عظيما بأسفله بعض الحجرات المتصلة بسراديب مغلقة تنتهي بنهر النيل ثم دعت رجال بلاطها الذين كانوا قد دبروا مؤامرة اغتيال شقيقها فدعتهم إلى مأدبة بالقصر احتفالا بالانتهاء من بنائه، ولما اكتمل شمل هؤلاء أغلقت أبواب القصر وفتحت مياه النيل على حجراته فأغرقت المتآمرين بحيث لم ينج أحد.
ووصف هيرودوت هذه الملكة بأنها أنبل وأعظم حكام عصرها... كما وصفها المؤرخ المصري «ماينتون» بأنها كانت أجمل امرأة في زمانها.
حملات وغزوات
نجح بيبي طوال فترة حكمه من العام 2278 إلى العام 2184 ق. م... في أن يرسل حملات قوية إلى الجنوب لحماية عرش مصر بقيادة حكام الفنتين... ومن أشهرهم «حرخوف» و «بيبي نحت» و «ميخو» حيث كانت مصر في تلك الفترة في حاجة إلى ملك قوي يكون له النفوذ والسلطان حتى يستطيع أن يكبح جماح حكام الأقاليم الذين ضعف ولاؤهم للحكومة المركزية.
وأصبحت غايتهم الحصول على مزيد من السلطة والمال دون الاهتمام بأحوال رعيتهم... ولكن الملك بيبي لم يكن قويا بهذا القدر وبالتالي لم يكن قادرا على تصريف الأمور... وأخذ حكام الأقاليم يسلبونه سلطاته، وفي ظل هذه الظروف عمت الفوضى أرجاء البلاد، ولم يكن هناك من ضحية سوى العامل والفلاح الذين ذاقوا الأمرين وما أن واتتهم الفرصة للتعبير عما تجيش به صدورهم قاموا بثورة اجتماعية عارمة رافضين كل ما في المجتمع من ظلم وفساد.
وبذلك انتهى حكم الأسرة السادسة «الدولة القديمة» ليبدأ عهد جديد بملكة تدعي «نيت أفرت» أو «نيتوكريس» التي ذكر المؤرخون أنها أجمل نساء عصرها، وأنها بانية الهرم الثالث... وذكر هيرودوت أنها حكمت البلاد وانتحرت بعد انتقامها من الذين قتلوا أخاها ليضعوها مكانه... وبنهاية حكم هذه الملكة انتهت الأسرة السادسة ـ أزهى عصور مصر القديمة ـ ليخلد الملك «بيبي الثاني نفر كارع» أصغر فرعون مصري يصل إلى العرش وعمره 6 سنوات.
«هل حكم أطفال أو صغار؟» وهل تقلدوا زمام الأمور ومقاليد الحكم في بلدانهم؟
سؤال قد تكون الاجابة عليه لـ «الوهلة الأولى» لا، أو لا نعرف أو قد لكن من ومتى وأين؟
ونحن نقلب في أوراق قديمة جدا أو قديمة فقط، أو حتى حديثة، كانت المفاجآت تتوالى تباعا حيث اتضح أن الكثير من هؤلاء بالفعل حكموا وصالوا وجالوا وأيضا أخطأوا وارتكبوا مخالفات أثرت على شعوبهم.
ونحن نقلب في أوراق مختلفة أتضح أن كثيرا من المجتمعات «شمالية وجنوبية شرقية وغربية» حكمت من خلال أطفال وفتيان وشبان صغار.
وجدنا هذا في الممالك القديمة «مصر والعراق» ووجدناه في العصر الإسلامي ووجدناه في أوروبا وآسيا وغيرهما.
عثرنا على ما يؤكد أن طفلا في السابعة «حكم» وأن أكبر منه بسنوات قليلة قاد بلده وأن من هم في العشرين «كثر» تقلدوا زمام الأمور.
الأمر مع غرابته لا يخلو حتما من الطرائف والعجائب والمواقف الساخنة والمعارك المشتعلة حتى إن هذه الأمور حفرت في ذاكرة الشعوب أو في مجلدات تراثية.
«الراي» قلبت كثيرا في أوراق تراثية وقديمة ومتوسطة وحديثة واقتربت من حكايات غريبة وعجيبة مع أطفال وصغار وشبان حكموا وفي السطور التالية تفاصيل كثيرة.
ونعود مرة أخرى... إلى مصر القديمة... بعد رحلة في الحلقة السابقة إلى الإمبراطورية البريطانية... وهذه المرة مع الحاكم... الذي قد يعد الأصغر بين حكام تولوا.
كان الملك بيبي الثاني محظوظا... إذ اعتلى عرش مصر وهو في السادسة من عمره... وظل يحكم حتى تجاوز المائة، وتعتبر فترة حكمه أطول فترات الحكم في مصر القديمة من أواخر القرن «23» ق. م إلى أواسط القرن الـ «21» ق. م، فحكم حوالى 94 عاما... وبالرغم من توليه المُلك صغيرا إلا أن الأمن في قصره كان مستتبا، ويرجع ذلك إلى أن «زاو» خاله ووزيره في الوقت نفسه فقد حافظ على استتباب الأمن في البلاد لمدة نصف قرن من الزمان.
كان «زاو»... وزيرا حكيما عاقلا يحسن التصرف في أمور الدولة، فلا يأخذ قرارا إلا بعد أن يفكر فيه تفكيرا عميقا، تعلم بيبي من خاله « زاو» كيف يحب شعبه، ولهذا أحبه الشعب وأخلص له.
رضع بيبي الحب والتدليل بعد وفاة أمه التي كانت وصية عليه في البداية من خالته «عنخس»... التي أصبحت أُُما له، فهي التي قامت على تربيته، ولم يعرف له أُما غيرها، وكانت تسقيه من حنانها وحبها وتدلله في سعادة وعطف.
حتى إن بيبي كان يعشق سماع عبارات التدليل من خالته «عنخس»، حتى إن الفنانين سجلوها في عصره على نقوش «وادي مغارة» تحت صورة معها حيث كشفت إحدى الروايات أنها كانت تدلله... فكانت تقول له: « ولدي الملك الصغير بيبي الجميل، يا من ملأت حياتنا بهجة وسعادة، وحافظت على تاج أبيك وأخيك... كم أتمنى أن أراك وأنت تمشي على قدميك ويملأ صوتك الآفاق فتعلم سريعا يا بني كيف تتكلم وكيف تحكم حتى تدير أمور هذه البلاد الجميلة وتستحق حب شعبها الطيب... شعب مصر العظيمُ».
يطلب الحنان
وفي هذه الأثناء دار حوار بين بيبي وخالته... حيث نظر إليها ثم جرى نحوها وقال لها وهو يرتمي في حضنها: « أماه... إنني خائف يا أماه، لا تتركيني وحدي فأنا لا أشعر بالأمان إلا وأنت بجانبي».
ربتت « عنخس» على كتفه وهي تقول: « ما الذي يخيفك يا بيبي الجميل... كلنا حولك أنا وخالك «زاو» والقائد «حرخوف».
رد بيبي قائلا: « لست أدري يا أماه كلما جلست وحدي، أشعر كأن جدران القصر ستنشق ويخرج منها مارد عملاق ليقتلني كما قتل أخي «مرن رع»... فضمته إلى حضنها كي تبعث فيه الاطمئنان وهي تقول له: « رعاك الله يا بني وأبعد عنك الأشرار وشرورهم ، دعك من هذه التخيلات، فالملك العظيم بيبي ملك قوي لا يخاف وإنما يرهب أعداء الوطن... والآن ماذا يريد ملك مصر الصغير بيبي الجميل».
الشجاعة وحب الوطن
كانت أمه تقف وراء ظهره باستمرار تربيه على الشجاعة وحب الوطن وعدم الاستسلام للعدو... فكانت دائما تدير الحوارات معه حتى يكبر وهو مؤمن بالديموقراطية، وفي إحدى المرات طلب بيبي من أمه «قزما» كالذي أحضره مساعده القائد « حرخوف»... من بلاد النوبة فردت الأم بانفعال شديد: «نحن لسنا بحاجة إلى أقزام... إن مصر يا بيبي تحتاج إلى عمالقة ليدافعوا عنها ويعمروا فيها لتكون دائما شامخة قوية قادرة على قهر أعدائها» ولكنه دافع عن القزم بقوة وحماسة.
حيث قال: « سوف ألهوا به ويسليني في وحدتي ويدافع عني وقت الشدة»... فقالت له : «لن يدافع عنك وعن مصر غيرك يا بيبي ورجالك الأقوياء الأشداء من أبناء مصر... فهم الذين ينبغي أن تحيط نفسك بهم، فتمنحهم الحب لكي يحبوك، غدا ستشب رجلا قويا فتيا يهابه الجميع ويعملون له ألف حساب ومع ذلك لك ما تريد، سأكلف القائد «حرخوف» بالذهاب إلى النوبة لإحضار القزم ».
وبالفعل سافر القائد «حرخوف»... قاصدا بلاد النوبة وتعرض في الطريق إلى أهوال كادت تقضي عليه هو ورجاله لولا مهارته وقدرته على ركوب البحر وتعوده كيف يتغلب على مثل هذه المواقف الصعبة بصبر وروية حتى وصل إلى بلاد الأقزام وسط أفريقية وأحاط به الأقزام من كل جانب، فكانوا ينظرون إليه في هلع وخوف... سار « حرخوف» وسطهم كعملاق مارد ضل طريقه وسط الأقزام... لكن «حرخوف» استطاع أن ينتقي أحد الأقزام وأتى به إلى السفينة ليهديه إلى الملك بيبى.
فمنذ صغره والملك بيبي مدلل من أمه وخاله... لا يرفضان له طلبا... وفي الوقت نفسه يربيانه على حب بلده ويعاملانه وكأنه أعظم ملوك العالم وكانا دائما ما يرددان: « إن مصر يا بيبي دولة قوية ينبغي أن يكون ملكها قويا مثلها... أما اللهو واللعب فكلها أمور طفولية لا جدوى منها ولا تليق بملك مصر».
الوريث طفلا
فكان خاله «زاو»... حاسما معه في كثير من الأمور حتى يتمكن من تربيته مثل هؤلاء الملوك... ورث بيبي الثاني العرش طفلا تسانده أمه وخاله ثم قدر له أن يحكم أكثر من تسعين عاما وهي أطول مدة حكمها ملك مصري.
حيث سارت أمور البلاد في أوائلها على النهج نفسه الذي سارت عليه في عهود أسلافه فكان دائم إرسال الحملات إلى الجنوب، وكذلك بعض الرحلات التجارية إلى بيبلوس في الشمال، فاتسم عهده بأنه كان شديد الثراء الملكي... حيث قام بتشييد هرم لنفسه أكبر من هرم أسلافه الذي اكتشفه العالم الأثري « جيكييه» بين عامي 1926 و 1936.
حيث كان يعمل في مصلحة الآثار المصرية واكتشف الهرم الذي يعود بناؤه إلى طراز الدولة القديمة... حيث تم تصميم الهرم على شكل هضبة في نهايتها الغربية نجد مدخلا صغيرا يسمح للكهنة الذين يتصادف وجودهم في أعلى الهضبة بدخول المعبد الجنائزي دون الحاجة إلى النزول إلى معبد الوادي.
حيث حرص بيبي أن يضع في مدخله حجرة للحارس الذي يحرس المكان، وبالرغم من أن جيكييه تمكن من معرفة بعض المناظر التي كانت تزين جدران الهرم من خلال دراسة بعض الأحجار المنقوشة التي عثر عليها أثناء تنظيف هذا الطريق، وبالرغم من أن هرم « بيبي» مبني بأحجار صغيرة من الحجر الجيري المحلي فإن بنيانه بوجه عام أفضل من بناية الأهرام الأخرى في هذه الأسرة... حيث إنه حتى وقتنا هذا لاتزال أحجار الكساء الخارجي للهرم الذي يصل إلى 52 مترا في حالة جيدة حتى الآن، حيث عثر « جيكييه» على آثار تثبت وجود هيكل صغير لتقديم القرابين أمام المدخل.
ولكنهم هدموا أحجاره في ما بعد أثناء عملهم في بناء الهرم واستخدموا أحجاره المنقوشة في أغراض أخرى، ويشبه هذا الهرم في نظام أجزائه الداخلية هرم بيبي الأول... إذ إن جميع ممراته وحجراته مقطوعة في صخر الهضبة.
المجموعة الهرمية
وإلى جانب المجموعة الهرمية للملك بيبي الثاني نجد أهرام ثلاث ملكات من زوجاته وهن «نيت» و «ايبوت» و«اوجيتن» والهرمان الأولان في الجهة الشمالية من هرم الملك والثالث في جنوبه وتتشابه هذه الأهرامات الثلاثة في بنائها وتصميمها الداخلي.
اتسم عهد الملك بيبي الثاني آخر حكام الأسر السادسة بالفوضى، ونظرا لطول مدة حكمه بسبب كبر سنه، أصبح غير قادر على كسب طاعة أمراء الأقاليم الذين زادت سلطتهم ولم يدينوا بالولاء للملك وامتنعوا عن دفع الجزية... ما أدى إلى ظهور الفوضى في كل مكان وأهملت القوانين وطُرد الموظفون من وظائفهم.
وازدادت سلطات حكام الأقاليم واتسعت ثرواتهم وثروات رجال البلاط الملكي وتفككت الدولة حتى أصبح في عهد بيبي وزيران، وزير للصعيد وآخر للوجه البحري، لم تكن هذه الأحوال تخلو من مظاهر الضعف... لا سيما بعد ازدياد سلطات حكام الأقاليم وازدياد ثرواتهم وزاد تمسكهم بالحكم بتوريث مناصبهم لأبنائهم واعتبروه حقا مكتسبا لهم وليس مجرد منحة من ملوكهم، بل جعلوا منصب والي الجنوب - الذي ابتدعته الحكومة المركزية للإشراف على مصالحها في الصعيد والإشراف على سياسة أمرائه - منصبا غير مهم ومنع حكام الصعيد موارد أقاليمهم عن الحكومة المركزية بالعاصمة.
فأصبحت شبه عاجزة عن تنفيذ أوامرها وممارسة تبعاتها وحقوقها، وبدأت قوافل مرتزقة تأتي من الحدود الشمالية والجنوبية للسيطرة على أطراف البلاد، وفي هذه الأثناء وقف بيبي مكتوف الأيدي لا يستطيع فعل شيء... وخاصة أن بعض المؤرخين أرجع الضعف والتحول في الأوضاع السياسية في نهاية الدولة القديمة يرجع إلى الوقت الذي صاهر فيه بيبي الأول أحد حكام أقاليمه وأنجب منه ابنتيه وولديه «هرتزع» و «بيبي الثاني»... فقد كان من الطبيعي أن يحابي أصهاره ويتغاضى عن اتساع نفوذهم... كما كان من الطبيعي لولديه أن يزيدا في محاباة أبناء أخوالهما، حيث ساهمت تنظيمات « بيبي الثاني « في التمهيد لعصر اللامركزية... حيث جعل للصعيد وزيرا وللدلتا وزيرا آخر وأسند وزارة الصعيد إلى النبلاء، وبخاصة أخواله وأبنائهم، وأسند وزارة الوجه البحري إلى رجال من البلاط المنفي.
تقاليد جديدة
كان تولي امرأة مقاليد الحكم وضعا لا تقره التقاليد، ولم يألفه المصريون القدماء في مصر القديمة، ومع عصور تعاقبه فقد كان عندما يتولى ملك ضعيف حكم البلد يقوم صراع بين قواده العسكريين أو بين أفراد من أمراء الأسرة المالكة تحسمه أميرة إما عن طريق شخصيتها أو عن طريق زواجها واتحادها مع زوج يهيئ لها الطريق للإمساك بزمام الأمور، فتتوج ملكة على البلاد أو تتوج زوجها ملكا تحكم من خلاله.
فمثلها انتهى حكم الأسرة الرابعة بامرأة هي «خنت كاوس» انتهى حكم الأسرة السادسة بامرأة هي الملكة «نيتوكريس» أو «نيت إفرت»، وكان ذلك في العام 2278 ق. م وقصة هذه الملكة أنها كانت من أميرات الأسرة السادسة التي كان حكامها من الملوك: «بيبي الأول» الذي اغتاله حراسه والملك « بيبى الثاني» الذي تولى حكم البلاد طفلا في السادسة من عمره.
ويروى أن هذا الملك حكم البلاد 94 عاما... ما يقطع بأنه في آخر أيام حكمه كان طاعنا في السن لا يقدر على الإمساك بزمام الأمور على الوجه الأكمل... فعمت البلاد الفوضى واستشرى الفساد وجاء بعد الملك « بيبي» أبناء الملوك الضعاف لم يدم حكم أيهم أكثر من عام، وانتهت الأسرة السادسة بملكة تدعى «نيت أفرت» أو «نيتو كريس» التي يذكر المؤرخون إنها كانت الابنة الكبرى للملك « بيبي الأول » ويرى آخرون إنها كانت أخت آخر ملوك الأسرة الذي كان مقتولا.
ويذكر هيرودوت أن رجال الدولة الذين اغتالوا شقيق هذه الملكة أجلسوها على عرش مصر على غير رغبتها... فقد كان ساءها اغتيال أخيها، ولكنها قبلت الحكم على أمل أن تنتقم ممن ارتكبوا هذه الجريمة في حق شقيقها، ولذلك فقد أنشأت قصرا عظيما بأسفله بعض الحجرات المتصلة بسراديب مغلقة تنتهي بنهر النيل ثم دعت رجال بلاطها الذين كانوا قد دبروا مؤامرة اغتيال شقيقها فدعتهم إلى مأدبة بالقصر احتفالا بالانتهاء من بنائه، ولما اكتمل شمل هؤلاء أغلقت أبواب القصر وفتحت مياه النيل على حجراته فأغرقت المتآمرين بحيث لم ينج أحد.
ووصف هيرودوت هذه الملكة بأنها أنبل وأعظم حكام عصرها... كما وصفها المؤرخ المصري «ماينتون» بأنها كانت أجمل امرأة في زمانها.
حملات وغزوات
نجح بيبي طوال فترة حكمه من العام 2278 إلى العام 2184 ق. م... في أن يرسل حملات قوية إلى الجنوب لحماية عرش مصر بقيادة حكام الفنتين... ومن أشهرهم «حرخوف» و «بيبي نحت» و «ميخو» حيث كانت مصر في تلك الفترة في حاجة إلى ملك قوي يكون له النفوذ والسلطان حتى يستطيع أن يكبح جماح حكام الأقاليم الذين ضعف ولاؤهم للحكومة المركزية.
وأصبحت غايتهم الحصول على مزيد من السلطة والمال دون الاهتمام بأحوال رعيتهم... ولكن الملك بيبي لم يكن قويا بهذا القدر وبالتالي لم يكن قادرا على تصريف الأمور... وأخذ حكام الأقاليم يسلبونه سلطاته، وفي ظل هذه الظروف عمت الفوضى أرجاء البلاد، ولم يكن هناك من ضحية سوى العامل والفلاح الذين ذاقوا الأمرين وما أن واتتهم الفرصة للتعبير عما تجيش به صدورهم قاموا بثورة اجتماعية عارمة رافضين كل ما في المجتمع من ظلم وفساد.
وبذلك انتهى حكم الأسرة السادسة «الدولة القديمة» ليبدأ عهد جديد بملكة تدعي «نيت أفرت» أو «نيتوكريس» التي ذكر المؤرخون أنها أجمل نساء عصرها، وأنها بانية الهرم الثالث... وذكر هيرودوت أنها حكمت البلاد وانتحرت بعد انتقامها من الذين قتلوا أخاها ليضعوها مكانه... وبنهاية حكم هذه الملكة انتهت الأسرة السادسة ـ أزهى عصور مصر القديمة ـ ليخلد الملك «بيبي الثاني نفر كارع» أصغر فرعون مصري يصل إلى العرش وعمره 6 سنوات.