عندما انهار الاتحاد السوفياتي في 1989، بدأ التداول بتعبير «النظام العالمي الجديد» إيذانا بانطلاق حقبة أحادية القطبية الأميركية، ما فتح الباب واسعا أمام العولمة الاقتصادية والثقافية التي أزالت الكثير من الحدود بين دول العالم، ولكن اتضح لاحقا أن الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة، لم يكن الأكثر استفادة منها، بل الصين التي أغرقت البلدان الأخرى ببضائعها الرخيصة بعد إزالة الحواجز الجمركية من أمامها. وهي أيضا يبدو أنها ستكون الأكثر تضررا من الاتجاه العالمي الحاسم نحو العودة إلى التقوقع، اقتصاديا وثقافيا ايضا، والذي عززه استفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي.هل يعني ذلك أننا عدنا إلى النظام العالمي القديم الذي كان قائما قبل سقوط الاتحاد السوفياتي؟ أم أننا بصدد نظام عالمي جديد آخر؟الاشتراكية بالمعنى السوفياتي، اي التأميم الشامل، سقطت نهائيا ولن تعود، لكن الحدود التي ألغتها العولمة عائدة، ربما هذه المرة مع جدران أعلى مما كانت عليه أيام الاتحاد السوفياتي. وإذ تُعتبر روسيا بوتين وريثة للنزعة التوسعية للاتحاد السوفياتي السابق، فإنها لم تعد العدو الأول للغرب. بل صارت تتشارك معه في الكثير من القيم، وفي الأعداء أيضا، ويمثل الإرهاب اليوم عدوا مشتركا لهما، كما كانت النازية عدوا مشتركا في أربعينات القرن الماضي.الخيار البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي، هو خيار بالانسحاب من المعركة الفكرية ضد الإرهاب التي يجب أن يخوضها الجميع. وليس غريبا أن يعتبره تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) وغيره من الجماعات المتشددة، انتصارا لهم. فالمعركة الحقيقية هي ليست تلك التي تخاض في ساحات القتال في الفلوجة العراقية أو منبج السورية، حيث مني التنظيم بسلسلة خسائر متتالية، وإنما هي التي تخاض على امتداد العالم، حيث يمتزج المسلمون بغير المسلمين، بما يجعل من كل خطوة إنعزالية مكسبا للإرهابيين، الذين يجهدون لتصوير هذه الحرب على انها حرب ثقافية ودينية بين الإسلام والغرب، وأنهم هم من يمثل الإسلام فيها ويدافع عنه.لقد نجح «داعش» من خلال أساليبه المرعبة في القتل، في تخويف المجتمعات الغربية إلى حد خلخلتها من الداخل، ودفعها إلى الانعزال، حيث عرف كيف يوجه رسالته بشكل رئيسي للمهمشين في هذه المجتمعات من المسلمين، بلغتهم ومن خلال آخر وسائل الاتصال، أي وسائل التواصل الاجتماعي. لكن الرد على انتشار الإرهاب بالإتيان باليمين المتطرف إلى السلطة، يعني أن الغرب قرر التعامل مع المسألة بمزيد من العجرفة والصلف والتعالي، وهذا التعامل هو من الأسباب التي أدت إلى التطرف الإسلامي في المقام الأول، وستكون نتيجته الحتمية تقوية شوكة الإرهاب.نحن إذا أمام حرب مرشحة للتصاعد، وليس للانحسار، حتى اذا خسر «داعش» المدن والبلدات التي يسيطر عليها في سورية والعراق. وساحة هذه الحرب تمتد جغرافيا من أورلاندو الأميركية إلى باريس وبروكسيل واسطنبول، وصولا إلى ما يجري في الشرق الأوسط من اضطرابات وفوضى، أي إنها تغطي مساحة العالم. إنها حرب تستحضر قرونا من الغزوات ونهب الثروات والمظالم، مما حال دون تقدم بلداننا ولحاقها بركب الحضارة كما يجب، ودفع الملايين من أبنائها إلى الهجرة نحو الغرب، ليجدوا أنفسهم على هامش الحياة، ما يدفع البعض منهم إلى التطرف.والنظام العالمي الذي سيسود في المرحلة المقبلة، هو نظام يقوم على ان الوطنية وحماية الحدود هما الاساس، بحيث يتراجع دور التحالفات الكبرى، مثل حلف شمال الاطلسي الذي كان في اوج قوته قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكنه ظل يلعب دورا اساسيا بعد ذلك، حيث تولى مهمة ترتيب الشؤون العالمية في فترة ما بعد الانهيار، من خلال ضم الدول الخارجة من الفلك السوفياتي اليه، ومحاصرة اي طموحات توسعية متجددة لروسيا، وكذلك من خلال توفير الاساس للتحالفات العسكرية التي تولت التعامل مع أحداث رئيسية شهدها العالم، مثل التحالف الذي اخرج صدام من الكويت، ومن ثم ذلك الذي اسقطه في بغداد، أو الذي أخرج الصرب من كوسوفو أو غيره.موسم الانعزال الذي ربما نشهد بدايته، هو أيضا بشكل أو آخر من نتائج عدم رغبة او قدرة الولايات المتحدة على تحمل تكاليف ادارة شؤون العالم.