55 عاماً مضتْ على مشواره الفني، وما زال قلبه مشتعلاً بحبّ الفن، ويدغدغه شعور النجاح الذي حقّقه على مستوى العالم العربي. كان مصدر ضحك للآلاف إن لم نقل: للملايين.«الراي» سعت إلى الممثل اللبناني المخضرم صلاح تيزاني الذي غلبت عليه كنية «أبو سليم»، ليفتح لها قلبه ويكشف لها ما يملؤه من أحداث ومواقف، وما يعتلج في أرجائه من أوجاع مضنية وعتاب قاسٍ... عشق التمثيل منذ نعومة أظافره، وقدم أعمالاً لا تُعد ولا تُحصى حتى أصبح مرجعية في التمثيل اللبناني. لكنه يقول في حسرةٍ ظاهرة إنه نسي «أبو سليم» نفسه، بل صار هذا الاسم/ الأيقونة لا يعني له شيئاً!اهتمّ بإضحاك الناس وإضفاء السعادة على حياتهم فكان له ما أراد، فليس هناك مَن لم يضحك على يوميات «أبو سليم»، ولم يتفاعل مع مقالب «فهمان»، ومن لم ينتقل إلى عالمهما الخاص وأصبح جزءاً منه؟حقق أبو سليم هدفه فأضحك الدنيا... لكنها أبكتْه وقست عليه، وربما لا تزال تُنكِّل به من دون رأفةٍ، غير عابئةٍ بعمره الذي أشرف على التسعين!قدّم مع فرقته آلاف الأعمال من دون ملل. ويحتلّ في ذاكرة الجيل القديم مساحة كبيرة من الذكريات الجميلة، وحتى الجيل الجديد تدفعه الرغبة والفضول إلى الاطلاع على أعماله.تيزاني، وفضلاً عن أنه يملك رحلة طويلة في التمثيل، هو علامة فارقة في الفن اللبناني يصعب تكرارها أو تقليدها حتى، وهو رمز فني يُحتذى ويفاخر به اللبنانيون. ومَن يتعرّف عليه ويقابله يزيد عشقه له نسبةً إلى تواضعه وطيبته ومحبته التي تتدفق على الآخرين من دون حساب.اللقاء كان ثرياً بين «الراي» والفنان الكبير صلاح تيزاني، وكان حصيلته هذا الحوار الذي عُدنا فيه مع «عميد الممثلين اللبنانيين» إلى الماضي، حيث بكارة البدايات وأحلام الطفولة.? مشوارك طويل في مجال التمثيل، أخبِرنا بما يخطر ببالك في البدايات؟- مهما تعلّم الفنان وتميز لا يستطيع أن يعطي نتيجة تُذكَر من دون وجود موهبة في داخله. قالوا لنا مراراً: «أنتم لستم دارسين للفن» وسألونا مستنكرين: «بأي معهد درستم الفن والإبداع؟». وإجابتي كانت ولا تزال حتى هذه اللحظة هي نفسها: أننا درسنا في أقوى المعاهد التي درس فيها مَن تتعلّمون أنتم منهم الآن. نحن تعلّمنا من ديلارتي، «تلك الفرقة الكبيرة»، وتعلمنا من موليير، ومن «لوريل وهاردي»، ودرسنا في المكان الذي درس فيه هؤلاء النجوم. والمدة الزمنية التي قضيناها في العمل التلفزيوني وهي 55 عاماً علّمتنا أكثر مما كانت ستعلّمنا إياه أي مدرسة أو معهد.? أخبِرنا أكثر عن طفولتك؟- كنتُ تلميذاً في مدرسة الفاروق في طرابلس. وعند نهاية كل عام دراسي، كانوا يقيمون في المدرسة حفلاً للتخرج يحضره جميع الطلاب وأهاليهم بالإضافة إلى الأصدقاء والجيران، وكانوا يقدمون مسرحية خلال هذا الحفل ويختارون لأجلها التلاميذ أصحاب الروح المرحة. ومن حسن حظي، أنني منذ طفولتي أملك تلك الروح حيث أسعى دائماً إلى إسعاد الناس من حولي. وبالفعل اختاروني للمشاركة في المسرحية، وقد لعبتُ دور القطة آنذاك، وحين صعدتُ إلى المسرح عمدتُ إلى العواء بدل النواء، فهناك ضحك الناس على تصرّفي، غير أن أستاذي غضب وراح «ينتف شعره» وقال لي: «عندما سيطلّ الكلب ماذا سيفعل؟» فأجبته: «هو ينونو»، وهنا اكتشفتُ من خلال هذا الموقف أن كل ما تفعله وهو مغاير عن الواقع يفتح مجالاً للكوميديا.كنتُ أتقصّد في أيام الدراسة أن أشاغب حتى يضربني الأستاذ، وخصوصاً أن الضرب كان سيّد الموقف في المدارس حينها. وعندما يضربني الأستاذ أبكي مُصْدِراً أصواتاً عديدة كالمواء حيناً والعواء حيناً آخر وأصواتاً مختلفة أيضاً بهدف إضحاك التلاميذ فقط.? كنتَ تتقصد الشغب إذاً للفت الأنظار إليك؟- هذا صحيح، ولإضحاك التلاميذ أيضاً. ولكن مع تقدم الوقت لم تعد تستقبلني أي مدرسة في طرابلس سواء كانت خاصة أو حكومية، وذلك بسبب «السجلّ الأسود» الذي أحمله، حيث لم تكن تمرّ أي دقيقة في الصف إلا وأسعى جاهداً إلى إضحاك التلاميذ بأي وسيلة كانت. التحقتُ لاحقاً بمدرسة الطليان في طرابلس، وكان الأستاذ نزار ميقاتي والد الممثل عمر ميقاتي أستاذ اللغة العربية حينها، وكان يترجم لنا دروسنا إلى اللغة العربية. وكان لدينا أستاذ تمثيل اسمه Senior Leon، وكانوا يقيمون في تلك المدرسة مسرحية كل ثلاثة أشهر، وكان هدفي آنذاك الالتحاق بفريق التمثيل في المدرسة، وهذا ما حصل وهنا كانت الانطلاقة.? وكيف كان التحاقك بفريق التمثيل في المدرسة؟- قمتُ بحركات عدة للفت نظر الأستاذ نزار ميقاتي، وهو الذي رشحني لاحقاً للفرقة، وعملنا تباعاً على تقديم مسرحيات باللغتين العربية والإيطالية. في العام 1940 وإبان الحرب العالمية الثانية، وجاء Senior Leon وقال لنا: «Deboute» أي «قِفوا»، وتابع: «Domanie noncheskola»، أي: «غداً لا توجد مدرسة». فصفّقنا نحن التلاميذ لكلامه وسعدنا به، لكن بسبب الحرب التي وقعتْ أُغلقت المدرسة وأرسلونا إلى منازلنا. في تلك الفترة التحقتُ بالمدرسة الأهلية التابعة لحزب النجادة، وكان رفيق الرفاعي أستاذ التمثيل فيها، فالتحقتُ بفرقته وعملنا على تقديم الحفلات.? كان همك التمثيل إذاً، وليس الدراسة؟- نعم، اضطررتُ لاحقاً إلى ترْك المدرسة نتيجة ظروف عائلية، وكنتُ مرغماً أيضاً على العمل لكسب المال فعملتُ في النجارة، وفي المقابل التحقتُ بالكشاف التابع لحزب النجادة، وفيه أسستُ فرقة تمثيل تألفت من كوستي - أمين - جميل - أبو الشباب، ورياض الشوربجي، وقصدنا القرى حينها لإقامة حفلات، وكنا نلاقي استحساناً من الجمهور.? كيف عملتم على تأليف هذه الفرقة؟- التقيتُ بعض الشباب في الكشاف، أما البعض الآخر فكان يعمل معي في النجارة. قدّمنا حفلات في مناطق متعددة من لبنان، وكانت الفرقة تحمل اسم: «النفير». تركنا الكشاف لاحقاً وأسسنا فرقة خاصة بنا باسم «كوميديا لبنان»، ذلك أنها كانت تعطينا مجالاً أكثر للتمثيل.? هذا يعني أنك لاحظتَ موهبة كل شخص وجمعتَهم ضمن فريق واحد؟- «ما حدا كان عنده شي، فأنا من كان يعلمهم».? كيف اخترتَهم إذاً؟- كانوا يعملون لديّ، وكنتُ لا أريد أن أُحضِر أشخاصاً من خارج بيئتي. كانت لديّ رؤية في التمثيل وهذا ما ساعدني. أحياناً كان يأتي من سورية أبو رشدي - بقدونس وأبو كلبجة، ويقدّمون مسرحياتهم في لبنان، فنعمل على متابعتها لملاحظة كل ما هو جديد، ولكن وجدنا أننا نقدّم المستوى نفسه من الأعمال وربما أفضل، من دون أي توجيه من أحد. الإحساس كان مفتاح النجاح.? كانت لديك الرؤية الكوميدية بالفطرة؟- نعم، في ذلك الوقت قدّمنا مسرحية «المسافر» في طرابلس على مسرح الـ «frère»، وكنا نعمل على المسرحية، وفي المقابل نحن مَن نذهب لبيع تذاكرها، ونحن كذلك مَن نقف على الباب لإدخال الناس، ونحن أيضاً مَن كان يُجلِس الناس على مقاعدهم في الصالة.? وماذا عن تكلفة العمل؟- من جيبنا الخاص. لم تكن المسرحية تحتاج إلى تكلفة عالية أساساً، فالمسرح كنا نستأجره بـ 200 ليرة لبنانية، والشباب «ببلاش»، والديكور كان يكلفنا مبلغاً بسيطاً.? وماذا عن إقبال الناس؟- كنا نملك شهرة في الأعراس والحفلات الخاصة، وفي ذلك الوقت لم نترك أي مناسبة إلا وذهبنا إليها لإثبات وجودنا. نحن مَن كان يبيع التذاكر، ولهذا الهدف كنا نسير على الطرق لعرْضها على الناس، هؤلاء كانت ردّات فعلهم متفاوتة، فمنهم مَن كان يقول لنا: «روحوا شوفو شغلة تنفعكم»، ومنهم مَن يطردنا، وبينهم مَن كان يصرخ بوجهنا، وآخرون كانوا يشترون بطاقة خجلاً منا. في النهاية نجمع نحو 100 ليرة أو 150 ليرة، وهنا نضع الفارق من جيبنا الخاص. خلال عرض «المسافر» جاء شخصان وتابعاها، هما عوني المصري وعبدالكريم عمر. تحدثنا لاحقاً وقالا لي: «فاتحين تلفزيون في بيروت منذ ستة أشهر تقريباً، وهو يطلب مواهب جديدة، لذا انزِلوا إلى بيروت». فأجبته: «التلفزيون لا يصل إلى طرابلس».? وماذا حدث لاحقاً؟- توجهتُ إلى بيروت وإلى ساحة البرج تحديداً، ومن هناك أخذنا سيارة أجرة إلى «تلفزيون لبنان»، حيث التقيتُ رشاد البيبي وعزّ الدين الصلح، مديري التلفزيون في ذلك الوقت. وفور وصولي سألني المدير عن النص، وهناك طلب مني إحضاره، فذهبتُ مع عوني المصري إلى قهوة «الحاوي» في ساحة البرج، ورحتُ أسرد له مسرحية «المسافر»، وهو يكتبها.? وهل كانت في رأسك؟- طبعاً، أنا الذي كتبها أساساً، فرويتُها له، ثم ذهبنا لطباعة النص وتوجّهنا لاحقاً إلى التلفزيون، وعندما قرأ المدير جزءاً كبيراً منها وضع النص جانباً وقال لنا: «هذه غير مضحكة» فأجبتُه: «الكوميديا لا تُقرأ بل يلزمك ممثل ليعطي من إحساسه ويزيد على دوره، وبهذا يأتي الضحك». وتابعتُ: «النص في العمل الكوميدي هو العامل الأول، والكاراكتير هو العامل الثاني، والموقف هو العامل الثالث، والديكور هو العامل الرابع، والإخراج هو العامل الخامس، وكل هذه العوامل تؤدي مجتمعة إلى إنجاح العمل الكوميدي»، وختمتُ كلامي: «أفْضل شيء أن أُحضِر لك الفرقة لترى المسرحية أمامك». وافق المدير على اقتراحي، وأتيتُ مع الفرقة في اليوم المحدد، وكان يوم خميس، ولم نجد مكاناً شاغراً سوى غرفة الملابس حينها، ولم نتردد في عرض المسرحية. وفي النهاية توجّه إلينا المدير وقال: «تعالوا يوم الاثنين المقبل لتقدّموا مسرحيتكم عند نهاية نشرة الأخبار المسائية، وقبل أن نقفل التلفزيون». وبالفعل قدّمنا المسرحية بشكل مباشر على الهواء. وبقينا لمدة عشر سنوات نقدّم أعمالنا على الهواء في «تلفزيون لبنان» من دون تسجيل، بين العاميْن 1960 و1970. وبعد 1970 أُحضرت كاميرات تسجيل وتغيّر «السيستم».
فنون - مشاهير
حوار الذكريات / الممثّل القدير يفتح قلبه لـ «الراي»... ويكشف ما فيه من أحداث ومواقف ومواجع (1 - 3)
صلاح تيزاني: ظللنا نمثِّل 10 سنوات «على الهواء مباشرةً» ... في تلفزيون لبنان!
03:43 م