يا رفاق - الشعر - إن القصيدة المكتملة الرؤية والعميقة الرؤيا، هي زاد للروح ودواء للجروح ومدى للبوح ولذة في عمق معناها وبعد مغزاها، تلك القصيدة التي قال عنها (فرلن) المعاني الخفية كالعينين الجميلتين تلمعان من وراء النقاب. فالقصيدة هي الأقرب للقلب والعاطفة والوجدان، فهي باقة غنية بأجمل وأنبل المشاعر والأحاسيس التي تعبر عن ذواتنا وتترجم مشاعرنا وتحتوي آهاتنا بتلك اللغة الرقراقة والمعاني المنساقة التي تدلف للقلب وتعشوشب بالروح، وكما قال الشاعر عاقل الزيد رحمه الله:عسى القصيد ان ما زرع بين الألبابدهشة.. وحرك قلب.. واطلق حجاجةيموت في مهده قبل شقة النابويحرق فتيلة.. ثم يكسر سراجةإذ إن لغة الشعر هي لغة الإشارة والإيجاز والتكثيف والإيحاء في حين أن لغة النثر هي لغة الإيضاح والإفصاح، يقول بول فاليري (إن الشعر: لغة داخل لغة) فالقصيدة الناضجة الضاجة بمساحات الإبداع ومسافات النعناع هي المكتنزة بالمعاني الجليلة والأفكار الجديدة في لغة بكر مبتكرة فريدة، بعيدة عن المباشرة والتقريرية، يقول الأمير بدر بن عبدالمحسن بلغة بالغة لأفق المعنى، وموغلة لأقصى احتمال مبنى ومغنى:ظلال العاشق جروحه ومن ما يتبعه ظلهأمانة يا شعاع الشمس لا تغضب من ظلاليفي نص مكتنز بالوصف وجمال الوصف يقول الشاعر سعد الحريص:مجدبه ياجروحي والسماء معشبهساكنه والهوى ميل جريد النخيلبارده يا حروفي والدفاء موهبهبارده مثل برد الخوف والمستحيلفالشاعر الناجح هو الذي يجعل القارئ يشحذ حواسه ويحرك وجدانه وتلتهب مشاعره عند قراءته للقصيدة، لذا كانت اللغة عنصراً مهماً في تشكيل النص وتميزه من خلال اختيار المعنى القوي المتكئ بدلالته على المعنى الرمزي والانفعالي والترادف والتضاد والإيحاء والخيال والجرس والإيقاع ليعبر عن مدى قدرة الشاعر وذكائه ووعيه في توظيف اللغة وتفجير طاقتها الدلالية بإيحاء جديد وتركيب فريد في بنائه للمشهد الشعري، مثلما قال الشاعر مساعد الرشيدي:عفري هنف للضلوع وجا لهن حنةواستانست له فياض القلب ورجومهلبى جبينة ليا ارتج الغطا كنه..برق يصب الرفيف بكبد ديمومةأما الشاعر ماجد الشاوي فيقول مختصراً المدى ومتموسقاً بالندى:تدرين وش حد محبوبك يجي شاعريرسم على الرمل.. نقش ما تعرفينه؟؟انتي.. وجور الزمان.. وحظه العاثروالا المشاريه والا ضامي سنينهوالا رجوعه من دروب الهوى.. خاسردليل ياسه.. صفير الريح بيدينهفالشاعر في النص الشعري «لا يدمر اللغة العادية إلا لكي يعيد بناءها على مستوى أعلى، فعقب فك البنية الذي يقوم به الشكل البلاغي تحدث عملية إعادة بنية أخرى في نظام جديد (صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، ص58).ومن العناصر المهمة الأخرى التي يجب ألا يغفل عنها الشاعر هي «الصورة الشعرية»، إذ إن الصورة هي الجسر الذي يحمل النص والجزء المؤثر والمثري في بنائه وتركيبه من خلال تلك الصور المكتنزة بالإيحاءات الجديدة والأخيلة المبتكرة، التي تعبر عن مدى عمقها ودقتها في نقل الرؤية والرؤيا، يقول الشاعر متعب التركي في حضور شاعري مثير مثري مثمر:ما فيه داعي توصيني تراي اعتبرتفرقاك ذكرى وشعري علق اجراسهايكفيني البارح إني في عيونك سهرتوقفت بين العيون السود وانعاسهافالإبداع الحقيقي لدى الشاعر يرتكز على استنطاق الواقع برؤية أخرى مختلفة عن المشاهد والملموس للأعيان، كما قال الأستاذ خزعل الماجدي (فكم سيبدو الشعر شاحباً هزيلاً، إذ افتقد إلى الصور، وكم ستبدو اللغة الشعرية ثرثرة إنشائية، لو لم تستفزنا بصورة قافزة نشطة نابهة)، فلنتمعن في قول الأمير خالد الفيصل في هذه الصورة الشعرية التي تتراسل بها الحواس من خلال التشخيص الذي يجعلنا نحلق بفضاء شعري جميل:يموت الشجر واقف وظل الشجر ما ماترياح الدهر تصرخ وهي تجرح جنوبهكما نجد هذه الصورة الشعرية المشخصة في نص طلال الرشيد رحمه الله:اليوم أنا ضيف جرحي جيت باطمنهاني جمعت الدموع وجبت أمانة أمينما يجرح الصادق الا غدر من يامنهلا جت من احباب قلبك لا تلوم السنينأما الشاعر نايف صقر فيقول في لقطة روحانية يندلق منها الضوء الإيماني بهذه الصورة الفنية الغنية، بكل شاعرية وإبداع:سجد قلبي على رمل الضلوع وهزه التنهيدوانا في جوفي خيام الندم والخوف منصوبهفكلما زادت قوة مخيلة الشاعر بالاستعارة والانزياحات اللغوية زادت القيمة الإبداعة للنص المفعمة بالديمونة والحيوية والجمال، فالتجديد بالصورة الشعرية أمر حتمي في توصيل تلك الشحن والطاقات المتفجرة في ذات الشاعر وجدانه عن طريق اجتراح اللغة وانزياحها لإحداث عنصر المفاجأة واللذة النفسية والحسية، كما يجب أن يكون الشاعر حذراً في رسمه للصورة الشعرية وتشكيلها، وحذراً في استعمال الرموز وتوظيفها، مبتعداً كل البعد عن الغموض الدلالي والرمزي المقفل كما في هذه الأبيات للشاعر فهد عافت:أخذ معي كل ما يخطر في بالك عداثوب تركته معلق في جدار هزيلتبكي الستاير تناديني أرد النداعمر الشقى يا ستاير لا تخافي طويلأودع البيت يا جدران طين وصدىمن كان مثلي رحيلة أرض وارضه رحيلأسير حافي قدم دربي ضلال وهدىوجهي سحاب وظما صوتي نواح وعويلويقول الشاعر عبدالله ناصر العتيبي في مشهد شعري مفعم بالوعي المشرق المغدق:سما كل أغنيات الفارس اللي رافض أرضهسما كل انكساراته.. جروحه.. صرخة أيامهحضن بعضه وطار هناك، وهناك اكتمل رفضهوش اللي يربطه بالأرض غير الطين واقدامه!فأتت الصور السابقة عبر تقنية التداعي والنمو للمشهد الشعري المراد إيصاله للمتلقي من الصورة الجزئية البسيطة إلى الكلية المركبة، فلنتمعن في هذه الصورة الشعرية للشاعر إبراهيم السمحان:خلي شجر مسراك ينفض ظلالهعلى الطريق اللي من الشمس عرقانويقول الشاعر فهد دوحان في حضور بهذه الصور التجريدية:كيف تقدر على حمل الفراق الثقيلوانت لا من لبست العقد ما تقدرهكيف أجل تلبس عقود الغياب وتميلوانت عودك طريْ.. وادنى هبوب كسرهوفي صورة شعرية غنية بتفاصيلها ومحاصيلها يقول الشاعر الحميدي الثقفي:لا شفت يا ماجد هوى غصن الزمان وطاح بيوالنار في جرحي تصب آخر نشيد اعراسهااكتب عزاي اني تعقبت السواد.. وراح بيدرب طويل من العطش بين الشفاه وكاسها