أخرج زعيم «القاعدة» الشيخ أيمن الظواهري تسجيلاً صوتياً تحت عنوان «انفروا للشام» في وقت كثرت التحليلات الغربية عن «قرب اعلان امارة اسلامية للقاعدة في سورية». وهذا التحليل بعيد عن الواقع حتى ولو تزامن مع رسالة الظواهري لأسباب عدة ستتبين لاحقاً.فللشام خصوصية دينية وتاريخية على مرّ العقود ومنذ إنشاء الدولة الاسلامية الاولى، وهذا تفصيل لا يستهان به، إلا انه لا يمثّل عمدة الأسباب التي اجتمعت من أجلها على أرض سورية الجيوش والقوى من جنسيات متعددة تفوق المئة. فالشام هي الارض التي جذبت اليها اقوى دولتين في العالم (اميركا وروسيا) متناقضتيْ المصالح، وكذلك جذبت اليها اقوى دولتين في العالم الاسلامي الشرق اوسطي (السعودية وايران) وجمعت الايديولوجية المتحاربة والمستعدة للقتال حتى الموت (القاعدة والسلفية الجهادية من جهة وحزب الله والميليشيات العراقية والافغانية من جهة اخرى).وتعتبر الجهادية العالمية ان الثورة الوحيدة الصحيحة من ثورات الربيع العربي تحدث اليوم في الشام دون غيرها على خلفية ان الثورات العربية فشلت في إنتاج ما تصبو اليه الجماهير. ويدعو الظواهري للنفير الى الشام لأنها أصبحت محطّ أنظار قادة الدول والاعلام العربي والغربي اليومي، تصنع السياسات وتدور حولها الصفقات ولا تهدأ أصوات المدافع والمجازر وأصوات الطائرات ويسقط فيها الناس، وكلٌّ يدّعي الشهادة لجماعته التي تقتحم بفنون حرب حديثة وتجمع الحرب العصاباتية والكلاسيكية في آن واحد وجميع الأطراف يصرخون عند الاقتحام «الله أكبر».فالظواهري يعلم ان الوقت لم ينضج لإعلان الإمارة الاسلامية وإلا فان السيوف ستسل لذبح «جبهة النصرة»، ولهذا فإنه ركّز اولاً على مسألة النفر للجهاد كفرض عين منذ الحرب الأفغانية وفتوى الشيخ عبدالله عزام وهو لم يخبئ ان اقامة الامارة هو هدف كل مجاهد، ولكنه لا يزال بعيداً الى حين التمكين ونضوج الاسباب والبيئة الحاضنة كي لا يفشل مشروع الخلافة كما حصل مع «البدري»، كما سماه الظواهري، وهو يقصد زعيم «الدولة الاسلامية» (داعش) ابو بكر البغدادي.والظواهري لم يتمسك يوماً ببقاء «جبهة النصرة» تحت جناح «القاعدة» بل ترك لزعيمها ابو محمد الجولاني حرية الاختيار بما ترضاه المصلحة الاسلامية العليا التي، اذا قضت باعلان الانفصال الشفوي، فلا ضرر بترك مسمى «القاعدة»، اذا صبّ ذلك في مصلحة الجهاد في سورية وقبلت الفصائل السلفية الجهادية - مثل «جند الاقصى» و«احرار الشام» و«جيش السنّة» و«جيش المهاجرين والانصار» و«الحزب التركستاني» وغيرها بالانضمام تحت مسمى واحد. وكان إنشاء «جيش الفتح» في ادلب وشمال سورية يهدف اصلاً لدمج كل الفصائل تحت راية واحدة، الا ان اكثر التنظيمات رفضت الانضواء تحت مسمى موحد بسبب الراعي الاقليمي الذي خشي ضرب الجميع من قبل اميركا وروسيا تحت عنوان «ضرب القاعدة».ويشرح الظواهري أسباب عدم جدوى انسلاخ «النصرة» في الوقت الحاضر عن «القاعدة» - دون ان يبرر ذلك - بل اكتفى بالقول ان الهدف الاقليمي والدولي هو تحويل المجاهدين الى علمانيين او الفرض عليهم الانضواء في مشروع ديموقراطي والجلوس الى طاولة المفاوضات، والرضوخ للمجتمع العربي المتحالف مع الغرب، لينتهي مشروع اقامة الدولة الاسلامية الى غير رجعة. والهدف من كلام الظواهري هو شرح الأسباب للتنظيمات التي تدور في فلك «النصرة» في الشام وتقاتل جنباً الى جنب في غالبية المعارك، ليفهم الجميع انه لا يمارس الضغط على «النصرة» لتبقى تحت فرع «القاعدة»، بل انهم جميعاً في خطر اذا ارتضوا بالمفاوضات وان الجهاد والقتال هو الحل الوحيد لضمان بقاء الإسلام - حسب رؤيته - او ضمان الموت في سبيل الله.وتأتي رسالة الظواهري لتعيد ذكرى حرب افغانستان حيث يقول للمجاهدين انهم انتصروا على روسيا حينها في الثمانينات - دون ان يذكر ذلك - ويحضّهم على التوجه الى قبلة الشام اليوم على عكس ما طلب زعيم «داعش» لمَن يريد الجهاد بالتوجه الى ليبيا. ولا يطلب الظواهري بأمر ولا فرض ولا بتهديد بل بتوضيح أهداف «القاعدة» بانشاء دولة الخلافة في المنظور البعيد وليس القريب ولكن لن يتم ذلك الا اذا اجتمع المجاهدون من كل مكان على ارض الشام.ان معركة الشام اصبحت على كل لسان، ولكن لماذا تجتمع كل القوى الجهادية على ارض الشام؟انها ظاهرة تستند الى أسباب سياسية - اقتصادية - اجتماعية - دينية وُلدت من فكر سيد قطب وبدأت بحركات تركز على الهوية - مثل الاخوان المسلمين - الى ان خرجت من رحمها حركات جهادية نشأت في ظروف انغلاق الأفق السياسي وانهيار الاتحاد السوفياتي وعدم تسوية قضية فلسطين والحكم العسكري في منطقة الشرق الاوسط، حيث الديموقراطية تنوء تحت حكمٍ متوارث. فاستُخدمت الطائفية التي استندت الى الايديولوجية التي خرجت من رحم حكم الضرورة والدعوة الضرورية، مبتدئة بحرب افغانستان حيث ظهرت البندقية الاسلامية التي حاربت السوفيات.وما زاد الطين بلة، حين بدأت دول عدة شرق اوسطية تحارب هذه الظاهرة، ما أنتج قوى عصاباتية تسلّحت وتدرّبت وضمت خبرات متراكمة من افغانستان الى الشيشان مروراً بفلسطين ولبنان والعراق حتى وصلت اليوم الى سورية. وهكذا انتقلت الجماعات من حركات اجتماعية الى جهادية فاعلة تجذب الشبان من كل قطر تحت اسم الاسلام المحارب. وتطورت هذه الجماعات من جهاد تضامني ايام الشيخ عبدالله عزام الى جهاد النكاية ضد العولمة وقتال الاميركان ومصالحهم في المنطقة وحلفائهم الغربيين. وتطوّر جهاد النكاية الى جهاد السيطرة، لتهدف هذه الحركات والجماعات الى الإمساك بالارض وانشاء الفروع وبناء مشروع سياسي دولي مواكبةً للربيع العربي، فغزا فكرياً بدايةً غرب افريقيا وشمال شرق نيجيريا واليمن وليبيا ومصر والعراق وافغانستان وباكستان ودول أخرى في الشرق الاوسط. وحملت مجموعاتٌ السلاح تحت عنوان واحد وراية سوداء وانتقل عدد المجاهدين من 5000 ايام افغانستان الى 50000 في يومنا هذا لتعبّر عن انتماء موحد، رافعة ايضاً شعارات الاختناق الاجتماعي من الفقر الى عدم وجود فرص عمل وغياب الديموقراطية وفتح السجون للشيوخ والشباب الملتزم بعقيدة الجهاد.وأوجدت هذه الحركات مبررات للعنف فانتفضت على الأنظمة وفرضت نفسها كأمر واقع يزداد ويشكل حالة لا يمكن تجاهلها تنمو وتتحدى دول عظمى مثل الولايات المتحدة بعد روسيا، واعلنت انشاء دولة (داعش في العراق وسورية) قامت على العنف والحرب مثل اي دولة اقيمت على مر التاريخ، ولكنها اضافة الى نفَسها المذهبي لجذب عدد اكبر من المناصرين، أعلنت الحرب على المسلمين اولاً قبل غير المسلمين مما اوجد خللاً في البيئة الثقافية الاسلامية.ونشأت اتجاهات جهادية بدأت مع العدو البعيد (القاعدة ضد اميركا) لتتجه نحو العدو القريب والبعيد (داعش ضد دول الشرق الاوسط وفي اوروبا واميركا من خلال خلايا ارسلهم او حرض على القتال بالوسائل المنزلية) واصبحت تملك جيوشاً منظمة غير نظامية تريد المحافظة على المكتسبات الجغرافية وتتناحر في ما بينها على «دولة الخلافة» («القاعدة» و«داعش») ويمتزج القتال بين المسلمين من فئات مختلفة لينتقل الى المسلمين من فئة واحدة على السلطة، وكلٌّ يحارب تحت راية العقاب التي تحمل كتابة حملها الرسول: «لا اله الا الله، محمد رسول الله».
خارجيات - تقارير خاصة
تقرير / لماذا خرج الظواهري ليدعو المجاهدين: «انفروا الى الشام»؟
07:26 ص