في المؤتمر الرابع للمجلس الدولي للغة العربية؛ جمع أحد الباحثين بما يقارب مئة قصيدة تبدأ بـ «قفا نبك» منذ أن افتتح امرؤ القيس معلقته بها إلى يومنا الحاضر. وكان سؤالنا له: إننا نتصور على الحقيقة والواقع أن امرؤ القيس لديه صاحبان يرافقانه أينما كان - وهذا طبيعي جدا - لأنه ابن ملك وهو حجر آكل المرار ملك كندة الذي قتله بنو أسد، وهو أيضا ابن أخت ملك فاطمة أخت وائل كليب التغلبي الذي قتل الملك التبع اليماني، ونحن نرى اليوم أصغر رتبة لمسؤول وهي رتبة (رئيس قسم) لديه - على أقل تقدير- شخص مقرّب منه في القسم يجس له تحركات وتصرفات الموظفين، ويتسقط أخبار الإدارة والوزارة؛ فما بالك بابن ملك وابن أخت ملك.لقد عامل امرؤ القيس المثنى معاملة الجمع وهو موجود في اللغة، فاللغويون يرون أن كل مثنى هو جمع في اللغة، والشواهد على ذلك كثيرة- ولا سيما- في القرآن الكريم. لذا؛ نرى امرؤ القيس يقول (قفا) لصاحبيه، (نبك) جمع نفسه معهما، فأصبحوا ثلاثة، ولم يقل (قفا ابكيا)، ولا أظن شخصيا أن البكاء الذي أراده امرؤ القيس هو بكاء على الحبيبة، هناك عبارة تقول «إذا بكت المرأة فإنها تريد شيئا، أما إذا بكى الرجل فإنه قد خسر كل شيء»، ويتجه ظني أن الذي خسره امرؤ القيس، هو فقدان الشخصية الثابتة والقادرة على اتخاذ القرار المناسب، فامرؤ القيس ضاع في متاهات تعدد الاختيارات المطروحة في ذهنه، هل يصبح ملكا كما أراد له أبوه؟ أم يصبح حبيبا عاشقا كما فرض عليه قلبه؟ أم لعوبا ماجنا كما سوّلت له نفسه الشغوفة والتواقة للمغامرات الغرامية؟ أم يصبح فارسا مغوارا، يتباهى بشجاعته أمام صاحبيه؟ أم شاعرا صعلوكا متمردا لا يخاف لوم لائم؟ أم شاعرا فيلسوفا حكيما يضرب فيه المثل بين العرب؟ لعل هذا ما أبكى امرؤ القيس، المصير المجهول. الاطلال التي وقف عندها امرؤ القيس، كانت شبيه بشخصيته المهشمة غير المكتملة، فهي غير صالحة للسكن والاستقرار وهي بالتالي غير قادرة على اتخاذ القرار، سواء أكان قرارا مناسبا أم غير مناسب. هذه الدوارس وهذه الاطلال التي أمر أمرؤ القيس بالوقوف عليها، إنما هي بقايا روحه العاجزة الضعيفة الواهنة.ولكن عندما يأتي الشاعر المعاصر في وقتنا الحاضر، ويجلس على مكتبه، أو في سيارته، أو على البحر أو على سريره، ويتوجع ويتألم وينهار باكيا ثم يأخذ القلم لينظم قصيدة ويحذو حذو امرؤ القيس، فيفتتحها بـ ( قفا نبك )، وهو بذلك قد عامل الجمع معاملة المثنى، حيث إنه أراد أن يقول للعالم بأسره ولكل من يقرأ قصيدته ( قفا.. ) وهي في الحقيقة (قفوا...). إذن ما النوازع النفسية، والقواسم الوجدانية والمصير المشترك بين امرؤ القيس الملك الضليل أبي القروح، وهذا الشاعر المعاصر؟ هل هو الاضطهاد، أم الإهمال، أم الإقصاء، أم القهر، أم اللوعة، أم الخوف من المجهول؟ أم الغربة النفسية؟ أم التجاهل؟ أم الازدراء؟ أم قلة الحيلة؟هل هناك اختيارات من متعدد لشعراء اليوم حينما يفتتحون قصائدهم بـ (قفا نبك)؟ ترى ما هو هذا الاختيار الذي جعل الشاعر المعاصر في حيرة من أمره، وجعل منه مترددا في اختياره؟إذ لابد من إعمال العقل في هذا التناص أو قل هذا التحوير؛ فلا نكتفي بجمع المادة، هذا الجمع الذي لا يعدو كونه جهدا في البدن وتعبنا في اليد وأرقا في العين لا أكثر ولا أقل من ذلك، نثني ونشكر عليه الباحث الجامع، ولكن لو أعملنا العقل وتآلفنا مع الألفاظ؛ لترجمنا هذا العمل الذي أجهد البدن وأتعب اليد وأرّق العين إلى عمل خلاق ومؤثر، ولاستلهمنا من ماضي لغتنا ما نجسد به حضرها ونبني به مستقبلها تطورا وألقا.في هذا الزخم الكبير والكثير من الدراسات والبحوث المكررة والمستهلكة، منها الغث ومنها السمين التي اعتمدت على التناص والتحوير والاقتباس من هنا وهناك، وقد عجّت بها المكتبات، واكتظـّت بها الأرفف وملئت بها الخزانات، لو تناول الباحث جزئية واحدة صغيرة في حجمها كبيرة في مبناها كثيرة في معناها، وأخلص لها النية والعمل، وخرج منها بشيء جديدة، سوف نعدّها إنجازا عظيما وكبيرا يستحق الشكر والثناء والتقييم؛ حيث إننا لسنا في عصر أبي الفرج الأصفهاني، ولا في عصر ابن منظور، فلدينا من المشاغل اليومية ما يكفينا، وعهدي بالمتلقي أيضا يقرأ فقد سمع من غيري وهو يريد أن يسمع مني إذن ما الجديد الذي سوف أقدمه له محترما بذلك ذوقه وعقليته؟«تعتذر الأيام عن سخط الزمن... وتجوب الأحلام أزقة الوهن... وتبقى دمعتان تجمعنا معا».* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com
محليات - ثقافة
مثقفون بلا حدود
«قفا نبك»... مصير الشعراء!
10:04 ص