بات المشهد اللبناني محكوماً بـ «وهج» الحمى الانتخابية التي ستكون كفيلة بوضع الأزمات السياسية الكبيرة التي يعانيها لبنان على رفّ التعليق طوال شهر مايو الذي ستجري خلاله الانتخابات البلدية والاختيارية تباعاً كل يوم أحد بدءاً من بعد غد.واذا كان الرأي العام اللبناني معروفاً بشغفه الانتخابي والتنافسي في كل انتخابات سواء كانت نيابية ام بلدية، فإن الانتخابات المقبلة تبدو فرصة مثالية لاختبار قدرة اللبنانيين على إحداث تغيير ولو نسبي في سطوة القوى السياسية والأحزاب ذات السمة الطائفية الطاغية على السلطات المحلية التي تمثّلها المجالس البلدية والاختيارية بتركيباتها الأهلية، ومدى تفلُّت المجتمع المدني الأهلي من هذه السطوة، الأمر الذي جعل البعثات الأجنبية والغربية خصوصاً تهتمّ بشكل استثنائي بهذه الانتخابات في ظل اعتبارات عديدة.ذلك انه فيما كان سائداً على نطاق واسع ان الانتخابات المقبلة لن تشهد معارك جدّية وحيوية إلا في المناطق ذات الغالبية المسيحية، بدأ هذا الانطباع يتبدّد تدريجاً لأن مناطق ذات غالبيات سنية وشيعية ودرزية ايضاً مسّتها «العدوى»، ولو من دون ان ترقى الى مستوى الحرارة الفائقة التي تطبع مناطق مسيحية. وتبدو هذه النقطة في هذا السياق محور اهتمام خاص لجهة رصد هامش الحرية المتاح لفئات مستقلة في مناطق نفوذ الثنائي الشيعي «أمل» و«حزب الله» في البقاع الشمالي مثلاً والنبطية والجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت.واذ تخوض لائحة منافِسة للثنائي معركة مهمّة، ولو يائسة، في بعلبك كبرى مدن البقاع الشمالي، فإن مناطق أخرى جنوبية تشهد محاولات خرقٍ مماثلة او إثبات وجود بما لا ينكر أهمية هذه الظاهرة، ولو ان الفوز في الانتخابات يبدو معقوداً للوائح الثنائي الشيعي. ولكن اعلان لوائح الضاحية الجنوبية مساء اول من امس في ثلاث بلديات كبيرة تتشكل منها الضاحية جاء محبطاً لجهة استئثار الثنائي الشيعي مع حليفه المسيحي «التيار الوطني الحر» (يقوده العماد ميشال عون) بالمنافسة قبل بدئها وانكفاء اي محاولات مستقلة فعلية عن السباق الانتخابي، بما يحسم النتائج سلفاً لهذا الثلاثي.اما على المستوى السني، فإن بيروت تمثّل في انتخاباتها الاحد النموذج الأول الأساسي حيث يخوض «تيار المستقبل» الذي يُعتبر القوة الرئيسية الأقوى سنياً معركة الدفاع عن حضوره وكذلك عن مبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في اكبر بلديات لبنان، وهو الأمر الذي نجح فيه زعيم التيار الرئيس سعد الحريري حتى الآن من خلال تمكُّنه من جمْع أكبر ائتلاف سياسي وحزبي مسيحي إسلامي في لائحة «البيارتة» التي يدعمها. وقد سقطت في هذا السياق آخر المحاذير التي كانت تهدّد هذا الائتلاف، مع التوصل الى اتفاقٍ بين الأحزاب والشخصيات المسيحية المعنية على توزيع مخاتير المناطق المسيحية وهو الأمر الذي كفل عدم انسحاب التيار العوني من «لائحة البيارتة» ليبقى مع الأطراف المسيحية الأخرى، وتحديداً «أحزاب» «القوات اللبنانية» و«الكتائب» والطاشناق والوزير ميشال فرعون، الذين يشكلون الرافعة المسيحية للائتلاف الواسع الذي يبدو الفوز معقوداً له ولو ان ثمة أربع لوائح تنافسه.اما الاستحقاق السني الأكبر الآخر فسيكون مؤجلاً الى معركة صيدا بين «تيار المستقبل» وخصمه التقليدي «التنظيم الشعبي الناصري»، ولو ان فرص نجاح الاول تبدو راجحة تماماً، كما الى آخر مراحل الانتخابات في منطقة الشمال حيث تشكل طرابلس الاختبار الأصعب، إما لتوافق بين الخصوم ولا سيما منهم الرئيس الحريري والرئيس نجيب ميقاتي، وإما لمعركة قاسية.وسط هذه اللوحة، تتركز الأنظار في غالبيتها على المعارك المسيحية بدءا بزحلة التي اعتُبرت من الأساس أكبر وأقوى المعارك التي ستطبع هذا الاستحقاق. وعشية الانتخابات اتخذت حمى التنافس في عاصمة البقاع أقصى توهُّجها بين ثلاث لوائح تختصر توزع النفوذ السياسي والحزبي والعائلي في أكبر المدن الكاثوليكية في لبنان. علما ان المعركة تجري بعد أشهر قليلة من وفاة احد زعمائها الكاثوليك النائب السابق الياس سكاف الذي آلت زعامة الكتلة الشعبية التي كان على رأسها الى زوجته ميريام التي تخوض معركة إثبات زعامتها في مبارزة حادة للغاية مع تجمع الأحزاب المسيحية الذي يضم «التيار الوطني الحر»و «القوات اللبنانية» والكتائب وكذلك مع لائحة اخرى للنائب الحالي ذات النفوذ المالي نقولا فتوش.وتتخذ معركة زحلة بُعداً يتجاوز الانتخابات البلدية الى صراع الأحجام بين الأحزاب وكتلة سكاف التي تُعتبر القوة العائلية الأقوى والأعرق في المدينة. وبعد زحلة، سيأتي دور معارك مشابهة في جبل لبنان الأسبوع المقبل، ولا سيما في مدينة جونية حيث تتشابه تقريباً الصورة التنافسية مع معركة زحلة، كما ان منطقة سن الفيل في المتن الشمالي ستكون مسرحاً لمعركة فريدة بين الأحزاب المسيحية نفسها بحيث ستتواجه لائحة مدعومة من حزب الكتائب والزعيم المتني النافذ ميشال المر من جهة ولائحة أخرى مدعومة من «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» من جهة أخرى.