... كل معارك المنطقة حاضرةٌ في الاستراحة «البلدية» في لبنان، فاحتضار السياسة في بيروت لم يَحُل دون الصدى الموجع لحرب الإبادة على حلب السورية، ومغزى صيْحات الصدريين في العراق «إيران برا برا، العراق تبقى حرة»، وحنكة الكويت وحكمتها في إدارة المفاوضات اليمنية.استنكاف بيروت عن السياسة منذ أمدٍ إما لانحناءتها الطوعية للعاصفة وإما لأفول زمن القامات الكبيرة من رجال الدولة، ومهما تكن الأسباب، فالنتيجة واحدة... البلاد بلا رئيس للجمهورية منذ عامين، تديرها حكومة «لا حول لها ولا قوة»، وبرلمانها في غيبوبةٍ تماماً كحالها وأحوالها.ورغم «التمرين الديموقراطي» الذي يطلّ الأحد المقبل مع أولى جولات الانتخابات البلدية، فإن هذا الاستحقاق شكّل دليلاً آخر على الكبوة السياسية في بلادٍ تشكل السياسة عادة خبزها اليومي... فالأضداد السياسية تتحالف هنا وتتعارك هناك، تتقاتل بالمجتمع المدني تارةً وتُقاتِله تارةً أخرى.ولم يكن أدلّ على التخبط من دعوة زعيم «الحزب التقدمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط البيروتيين الى كسْر لائحة ائتلاف الأحزاب في انتخابات العاصمة التي يتمثل فيها حزب جنبلاط نفسه، في إشارة دعمٍ للائحة أخرى تضمّ وجوهاً شبابية تتمتع بكفاءات مميّزة في ميادين الفن والثقافة والعلم والعمارة وسواها.هذا الزعيم الحزبي لم يتردّد في القول «كلامي واضح ضد الأحزاب»، وهو انبرى في الأول من مايو الجاري، في الذكرى الـ 67 لتأسيس حزبه، للدعوة الى «حركة تغيير في الحزب وربما في رئاسته»، قبل ان ينضمّ الى اعتصامٍ تضامني مع حلب الشهباء «في وجه الطاغية»، في وسط بيروت.وفي وسط بيروت، الذي يعاني احتضاراً ويكاد ان «يموت»، ثمة مظاهر خجولة بدت وكأنها تريد إعادة الاعتبار للسياسة... تظاهرةٌ يتقدّمها الحزب الشيوعي اللبناني العائد من «الغربة» مع أمينه العام الجديد حنا غريب بمناسبة عيد العمال، وأخرى شيعية مناهِضة لتدخل «حزب الله» في سورية نظّمها «حزب الانتماء اللبناني».وفي عقر دار هذا الوسط المحاصَر بإجراءاتٍ أمنية «خانقة»، يفتح البرلمان في ساحة النجمة اليوم أبوابه الموصدة بفعل الشغور في رئاسة الجمهورية، لمناقشة «كوْمةٍ» من مشاريع قوانين الانتخاب في ورشةٍ يسود الاعتقاد بأنها لن تصل الى تفاهم، أقله في المدى المنظور.وثمة مَن يعتقد في بيروت أنه ما دامت الحياة السياسية معلّقة على حبال الصراع الإقليمي اللاهب، لن يتم الاتفاق على قانون انتخابٍ يُعتبر الممر الإلزامي لإعادة صوغ التوازنات في السلطة في انتظار ما ستؤول إليه موازين القوى في الصراع الكبير في المنطقة.ومن هنا، فإن الدخان الأبيض لن يتصاعد من مبنى البرلمان لا في قانون الانتخاب ولا في الجلسة الـ 39 لانتخاب رئيس الجمهورية في العاشر من الجاري. ومهما تعالى الصراخ في الذكرى الثانية للشغور الرئاسي في 25 مايو الجاري أيضاً، فإن «فخامة الفراغ» مستمرة حتى إشعار آخر.ولن يكون «حوار الطرشان» بين القوى السياسية في جوْلته الجديدة في 18 الجاري أفضل حالاً... وجلّ ما في استطاعة مدير هذا الحوار رئيس البرلمان نبيه بري الإبقاء على «شعرة معاوية» لالتقاط صورة جامعة لأطرافٍ مأزومة تنتظر الفرَج الإقليمي.وهكذا يمرّ مايو بمحطاته المتعددة العنوان وكأن شيئاً لم يكن... انتخابات بلدية لن تغيّر في الواقع البائس، وجلسة انتخاب رئاسية تمدّد الفراغ المتمادي وحوارٌ للحوار لا يقدّم ولا يؤخر في مشهدٍ يعكس هشاشة الواقع السياسي في البلاد.وحدهما الجيش والقوى الأمنية يحرسان القرار الدولي - الإقليمي الكبير بالحفاظ على سلامة الانتظار اللبناني الثقيل ومنْع انزلاق الواقع السياسي المترنّح الى حروبٍ مشابهة لما يجري في المنطقة.فمن العين الساهرة على الحدود مع سورية وقيام الجيش بعمليات استباقية ضد «داعش» إمساكاً منه بزمام المبادرة، الى حماية القوى الأمنية لتحضيرات عملية الانتخابات البلدية، يسود الاطمئنان الأمني، السمة الوحيدة التي يمكن أن يفاخر بها اللبناني وسط أزماته المتوالية.