إذا كان الفن بأطيافه المتنوعة لغةً عالمية... فإن أبوظبي تُثبت، المرةَ تلو المرة، أنها تتقن هذه اللغة، بل تصنعها أيضاً!هذه الحقيقة عايشها - بل واستمتع بها - كل من حضروا مهرجان «أبوظبي 13»، فإذا نغمات الموسيقى الكلاسيكية تحلِّق عالياً، قبل أن تتنزَّل لتعانق الألوان والظلال التي انسكبت على لوحات تشكيلية تفيض فكراً وعاطفةً وتألُّقاً، متوحدةً تحت شعار «الالتزام بالثقافة»، الذي حولته أبوظبي التزاماً بالمتعة الراقية والجمال النبيل!الرحلة الرائعة إلى إمارة أبوظبي - قلب دولة الإمارات العربية المتحدة - زاد من متعتها أنها كانت على متن «طيران الاتحاد»، قبل أن تتضاعف متعتنا هناك بصورة متفردة، من خلال الإقامة في منتجع «إنتركونتننتال أبوظبي» الذي يتربع على موقع إستراتيجي بإطلالته الساحرة على الشاطئ، إلى جانب الخدمة الاحترافية العالية المستوى!الرحلة التي قامت بها «الراي» كانت ذات طابع ثقافي، تلبيةً لدعوة من مجموعة «أبوظبي للثقافة والفنون»، لحضور أمسيتين من الفن الراقي في مسرح «قصر الإمارات»، الأولى أحياها عازف البيانو الصيني العالمي لانغ لانغ، والثانية تزينت بفرقة «أوركسترا باريس»، إلى جانب التجوال في معرض للفنون التشكيلية حمل اسم «إمارات الرؤى»!مجموعة «أبوظبي للثقافة والفنون»، مؤسسة مستقلة غير ربحية، أسستها هدى الخميس كانو، ويرعاها وزير الثقافة وتنمية المعرفة الشيخ نهيان آل مبارك آل نهيان، لحضور «مهرجان أبوظبي» الذي تُنظَّم فعالياته برعاية وزير الخارجية والتعاون الدولي الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، حاملاً شعار «الالتزام بالثقافة»، مؤكّداً بذلك ضرورة التزامهم من خلال 20 عاماً من العمل الدؤوب، بتعزيز الحركة الثقافية وترجمة رسالة الإمارات الإنسانية والمعرفية، انطلاقاً من أن العالم اليوم في حاجة ماسّة إلى الفنون التي توحّد الشعوب وتبني مستقبلاً أكثر إشراقاً للأجيال الآتية.جاءت فعاليات المهرجان في دورته الثالثة عشرة ثمرةً للنجاح الذي حققته اثنتا عشرة دورة سابقة من عمر هذا المحفل الثقافي والفني المميز الذي يجمع أرقى الفنون الكلاسيكية والتشكيلية، وأجمل فنون الأداء العالمية، حتى بات إحدى أبرز فعاليات الثقافة والفنون في دولة الإمارات والمنطقة العربية، ومنصّةً عالمية للموسيقى الكلاسيكية في منطقة الشرق الأوسط، حيث تمكّن المهرجان على مدى السنوات الماضية من تعزيز موقعه كفعالية فنية وثقافية مهمة في المنطقة، وكإحدى التظاهرات الفنية المميزة على مستوى العالم.في الليلة الأولى، استعرض عازف البيانو الصيني العالمي لانغ لانغ - في ظهوره الأول بالمهرجان - مهارته المذهلة من خلال أمسية حافلة اختار فيها معزوفات لثلاثة من كبار المؤلفين الموسيقيين على مرّ العصور، إذ تضمنت رائعة تشايكوفسكي «الفصول»، فكانت كالتالي «يناير: بجانب الموقد، فبراير: الكرنفال، مارس: أغنية طائرة القُبَّرة، أبريل: زهرة الثلج، مايو: الليالي البيضاء، يونيو: أغنية البحارة، يوليو: أغنية الحصّادين، أغسطس: الحصاد، سبتمبر: الصيد، أكتوبر: أغنية الخريف، نوفمبر: في الترويكا، ديسمبر: عيد الميلاد»، ومقطوعة باخ الشهيرة «الكونشرتو الإيطالي» متمثلة بـ «أليغرو: مقام إف ميجور، أندانتي: مقام دي ماينور، برايستو:مقام إف ميجور»، إلى جانب معزوفات شوبان «السكيرتسو الأربعة» وهي «الأول على سلم (بي ماينور) المقطوعة 20، الثاني على سلم (بي فلات ماينور) المقطوعة 31، الثالث على سلم (سي شارب ماينور) المقطوعة 39، الرابع على سلم (إي) المقطوعة 54»، فاستطاع لانغ في تلك الأمسية شدّ انتباه الحضور الذي اكتظّ به مسرح «قصر الإمارات»، من خلال عزفه الذي كان آسراً وجميلاً لدرجة أنه استطاع حبس أنفاس كلّ من تمكن من حضور أمسيته الموسيقية خشية أن يفوتهم شيء من إبداعه الموسيقي اللامتناهي.يُذكَر أن هذا الشاب الثلايني يحرص دائماً على ترسيخ علاقاته مع المؤسسات التي تدعم مساعيه لإثراء الشغف بالموسيقى الكلاسيكية لدى مزيد من الجمهور، كما يركز على مدّ الجسور الثقافية بين الشرق والغرب، ولعلّ الإلهام هي الكلمة الأصدق تعبيراً عنه، فهو يحظى بتقدير وإعجاب الجميع بفضل نظرته العالمية واسعة الأفق التي تشكّل حافزاً إبداعياً لمسيرته المهنية، فهو يمثّل مصدر إلهام لملايين العازفين بفضل روحه الرقيقة وأسلوبه العاطفي في العزف، ويتجلى ذلك واضحاً في الأمسيات الدافئة أو الحفلات على أضخم المسارح العالمية، ومنها التي أحياها أخيراً ضمن فعاليات «مهرجان أبوظبي».والجميل في «لانغ» أنه لا يزال الشغف الطفولي بالموسيقى يستأثر بحانب كبير من حياته، إذ يمثّل بالنسبة إليه مهنة ثانية تتمثل في تعزيز اقتران الموسيقى بمختلف جوانب حياة الأطفال حول العالم سواء من خلال عمله سفيراً لمنظمة الأمم المتحدة في مجال قضايا التعليم العالمي، أو عبر مؤسسة «لانغ لانغ العالمية للموسيقى»، ليكون بذلك مصدر إلهام للكثيرين.أما الليلة الثانية، فلم تقلّ رقياً وفخامة موسيقية عن سابقتها، إذ كعادة القائمين على المهرجان في استقطاب أشهر فرق وقادة الأوركسترا العالميين إلى دولة الإمارات، كان اللقاء للمرة الأولى في منطقة الخليج العربي وبالتعاون مع السفارة الفرنسية في الإمارات مع «أوركسترا باريس» التي تُعتبر واحدة من ألمع فرق الأوركسترا السيمفونية في العالم، إذ أحيت أمسية متميزة قدمت خلالها برنامجاً وطنياً بامتياز ضمّ أفضل الأعمال الموسيقية لكبار المؤلفين الفرنسيين في العالم تحت قيادة قائدها الموسيقي الشهير بافو يارفي، وبمشاركة عازف «التشيللو» كزافييه فيليبس وعازف الكمان سيرغي خاشاتريان وعازف «الأورغ» تيري إشكايش.افتتاحية تلك الأمسية الرائعة التي احتضنها مسرح «قصر الإمارات» امتدت على مدى ساعة وخمس وأربعين دقيقة من الوقت، كانت مع مقطوعة موسيقية للمؤلف الموسيقي هيكتور بيرليوز «بعنوان» القرصان «المقطوعة رقم 21،ثم أعقبها بمقطوعة للمؤلف الموسيقي إدوار لالو» بعنوان «كونشيرتو التشيللو» على سلّم «دي ماينور»، وختاماً مع مقطوعة للمؤلف الموسيقي كميل سان سونص بعنوان «السيمفونية الثالثة» على سلّم «سي ماينور 78»، لتنتهي الأمسية بعدما نجحت في وضع الجمهور عند نقطة موازية للسحاب تحليقاً ومتعةً!كان لافتاً في الأمسيتين الرائعتين أن الجمهور الغفير كان يحرص على الحضور قبل موعد الحفل بوقت كافٍ، كما أنه طوال الوقت كان مستمعاً بإمعان وإحساس كبيرين، وتأملٍ صامت انتفت معه الجلبة والضوضاء، وبقي الوقار والمهابة للإبداع والعزف، الذي كان لا يكاد ينتهي حتى ينطلق التصفيق الحار والمنظم ليدلعلى أن الحضور في القاعة هم من النخبة التي تعي جيداً قيمة الموسيقى ورسالتها الرفيعة، وتوقر العازفين الذين يكشفون اللثام، فوق خشبة المسرح، عن سحر النغم وفيض الألحان.
متفرقات - مناسبات
«الراي» لبَّت الدعوة وحضرتْ فعالياتِ المهرجان على مسرح «قصر الإمارات»
«أبوظبي 13»... الموسيقى تعانق ألوان «التشكيل»!
05:59 م