قصص التاريخ كثيرة ومعبرة، فيها من الدروس والحكم الشيء الكثير، والأخذ بمضامينها وفوائدها قد يساهم في اصلاح حياتنا وحياة من حولنا. قرأت قصة جميلة ومعبرة في كتاب «إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس» لصاحبه محمد دياب الأتليدي وتحديدا في الصفحة الحادية عشرة بعنوان «عمر والشاب القاتل وأبوذر»، وأحببت أن أشاركك فيها عزيزي القارئ لتعم الفائدة على الجميع.كان الفاروق عمر بن الخطاب جالسا ومعه أكابر الصحابة وأهل الرأي يحكم بين الرعايا، فدخل عليه شابان ممسكان بشاب آخر، جذباه وسحباه بين يدي أمير المؤمنين، فقالا: «نحن أخوان شقيقان كان لنا أب حسن التدبير ومنزهاً عن الرذائل خرج اليوم إلى الحديقة ليتنزه بين أشجارها فقتله هذا الشاب، ونسألك القصاص في ما جناه والحكم فيه بما أراك الله». فنظر الفاروق إلى الشاب وطلب منه الجواب لما سمع، فقال الشاب: «يا أمير المؤمنين، لقد صدق الشابان في ما قالا وسأروي قصتي لك والأمر متروك لحكمك.«لقد عشت أول سنيي في البادية، وأتيت إلى هذا البلد بالأهل والمال والولد. وفي يوم بينما كنت أسير بين الحدائق، دخل أحد فحولي إلى حديقة ذلك الشيخ فحاولت طرده بسرعة، وإذا بالشيخ يضرب الفحل بحجرة فأرداه قتيلاً. فلما رأيت الفحل قد سقط ميتا، انتابني غضب شديد فرميت الحجرة نفسها على الشيخ، فأصابت الحجرة رأسه ومات فورا من شدة الضربة».قال عمر: «لقد اعترفت بما اقترفت، وتعذر الخلاص، ووجب القصاص، ولات حين مناص». فرضي الشاب بحكم أمير المؤمنين ورضخ لشرع الله، وطلب مهلة ثلاثة أيام، لأن له أخا صغيرا خصه أبوه المتوفى منذ سنين بمال كثير وذهب وفير وأشهده أن يكون مسؤولا على ذلك، وأنه قد قام بإخبائه في مكان لا يعلمه أحد. وأضاف أنه سيذهب إلى أهله ليدلهم على المال والذهب وليجد من يتولى أمر أخيه ويتابع أحواله بعد وفاته.نظر الفاروق إلى الحضور، ثم قال: «من يكفل هذا الشاب حتى يعود ويُطبق شرع الله فيه؟»، فالتفت الشاب وأشار إلى أبي ذر الغفاري، وقال «هذا يكفلني». فوافق أبي ذر قائلا: «نعم أضمنه إلى ثلاثة أيام». ذهل الجميع من موقف أبي ذر، فلم يكن أحد يعرف هذا الشاب الذي سيعود إلى البادية، حيث موطن رأسه، ليلتقي أهله، ويعود بعدها!انقضت الثلاثة أيام، واقترب موعد تطبيق القصاص، واجتمع الناس ومعهم الشابان في مجلس عمر والصحابة وأبو ذر من حوله، فقال عمر: «والله إن تأخر الغلام، لأمضين في أبي ذر ما اقتضته شريعة الإسلام»، فصاح الناس وانهمرت دموع الحاضرين وزاد التشنج بينهم. فعرض الصحابة على الشابين أخذ الدية، فأصرا على عدم القبول، وألا يذهبوا إلا بعد أن يثأروا لأبيهم المقتول.ازداد الترقب والتلهف بين الحضور، لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور، فإذا بالقاتل يقبل تجاه أمير المؤمنين ويقول «لقد حضرت بعد أن أديت واجبي تجاه أخي ووفيت بقسمي أمام أبي»، فتعجب الناس وذهلوا من صدقه ووفائه، بينما كان قادرا على الهروب من دون أن يدركه أحد.سأل أمير المؤمنين القاتل عن أسباب رجوعه، فقال: «لقد أتيت لكي لا يقال ذهب الوفاء من الناس». فالتفت عمر وسأل أبا ذر لماذا كفل القاتل وهو لا يعرفه ولم يره من قبل؟، فقال: «لقد كفلته لكي لا يقال ذهب الفضل من الناس». وعندها قالا الشابان: «لقد عفونا عن قاتل أبينا لكي لا يقال ذهب المعروف من الناس».ما أحوجنا حقا في هذه الأيام إلى هذه الخصال الحميدة المفقودة التي تعتبر من ركائز المجتمع الإسلامي المتماسك القوي، فهل من معتبر؟Email: boadeeb@yahoo.com