شعرة الدهاء. ترى ماذا تعني لك حين تسمعها؟ لا شك أنك سوف تستحضر في ذهنك درسا في التاريخ مذ كنت طالبا والمعلم يشرح لك مقولة خليفة المؤمنين معاوية بن أبي سفيان «بيني وبين الناس شعرة إن شدوا أرخيت وإن أرخوا شددت»، كما أنك سوف تتخيل صورة الخليفة بلباسه من خلال ما ترى في المسلسلات والأفلام التاريخية التي جسّدت هذه الشخصية، ومن الممكن أن تربطها بممثل عينه. أما الذي لم يقرأ التاريخ أو يدرسه ولم يعرف شيئا عن هذه المقولة، فسوف يتخيل الشعرة مجردة مثل شعرة الرأس وخلافه، في غير موضع المقولة. إذاً هذه الشعرة المجردة حينما استخدمها الخلفية معاوية؛ اكتست عدة معان وعدة تسميات منها: شعرة معاوية، شعرة الدهاء... إلخ. بل والأكثر من ذلك أصبحت مصطلحا سياسيا؛ فدخلت في السيميائية من حيث الإشارة، ودخلت في العلامة اللغوية من حيث السيمولوجيا. يرى الباحث عبد العالي بشير أن «السيميائية هي علم الإشارات الدالة مهما كان نوعها وأصلها أو هي العلم الذي يدرس بنية العلامات وعلائقها في هذا الكون، ويدرس توزيعها ووظائفها الداخلية والخارجية» ويضيف: «إن مصطلح السيميائية معطى ثقافي أميركي يحيل على مفاهيم فلسفية شاملة، ويستعمل للدلالة على العلامات غير اللغوية. أما مصطلح السيمولوجيا فهو معطى ثقافي أوروبي، ويستعمل للدلالة على العلامات اللغوية».ما من شك أن عناوين النصوص الأدبية ما هي إلا مرآة عاكسة وراصدة لروح المرحلة التي يتناولها كاتب النص الأدبي بفنونه المتعددة، والتي تحمل إسقاطات متنوعة على أحداثها ورموزها. ولعل الرموز والإشارات والأصوات والرسومات أكثر وقعا على القارئ أو السامع أو المشاهد من الشرح، وهي تسهم في تفعيل إحساساته وتحريك وجدانياته ودغدغة مشاعره، وتشنيف أذنيه تجاه الحدث. وبما أن (رأس النص هو عنوانه) كما يقال؛ فمن الضرورة بمكان معرفة سيميائية هذا العنوان، وإلى ماذا يرمي، وما هي النوازع النفسية التي على ضوئها تم اختياره، يربط الباحث المتخصص في علم السيميائيات الدكتور رشيد بن مالك، العنوان بالنص قائلا «تعتبر العلاقة الأولى (عنوان- نص) المدركة عبر هذا التدرج الرسالة الأولى التي يسعى الكاتب إلى تبليغها للقارئ بهدف إثارة فضوله وتحريضه على قراءة النص»،ومن خلال إطلاعنا على بعض الصحف اليومية فبمجرد أن ترى عنواناً مميـّزاً يرغمك على قراءة مضمونه، وقد يكون هناك موضوع يحمل في طياته مضمونا جيد إلا أن كاتبه قد أخفق في اختيار العنوان المناسب له؛ فصرف القارئ عن قراءته، وهذا ما ينطبق تماما على الكاتب المسرحي الذي اشترط على نفسه عندما اختار عنوانا لمسرحيته، أنه سوف يقدم عملا جيداً مميـّزاً يليق بعقلية المشاهد ويحترم ذوقه، على ألا نغفل أن الفن المسرحي في النهاية هو فن أدبي يخضع للذوق العام، والذوق العام يتفاوت من مشاهد إلى آخر.* المسرحية العراقية (حظر تجوال) تأليف وإخراج مهند هادي – قدمتها الفرقة الوطنية للتمثيل – بغداد.. «اثنان من قاع المجتمع على قارعة طريق: رائد محسن – صبـّاغ الأحذية وسمر قحطان – غاسل السيارات» خضا وجالا وبسطا همومهما وهموم كل موطن عراقي طحنته الآلة العسكرية والغطرسة السياسية الأميركية، قالا كل شيء يخطر على البال على قارعة الطريق وفي ليلة ظلماء غير مبالين أو مدركين بما يسمى (حظر تجوال)، إذاً لم يستطع الحظر أن يكمم الأفواه، ولم يتمكن هذا الحظر اللعين أن يقمع الحريات، ها هما أبسط شخصين من الوظائف الدنيا كسرا هذا الحظر وجالا وخاضا في الكلام وعبـّرا عن واقع أليم، والمخرج العراقي مهند هادي حينما أطلق على عمله حظر تجوال كأنه يتحدى الاحتلال الأمريكي قائلا إذا حظرتم المكان فليس بمقدوركم أن تحظروا الحناجر، وهذا يجرنا إلى مقولة جوزيب بيزا كامبروبي «العنوان ليس ملكية لكنه جزء من العمل». وكلمة (حظر) هي منع يتبعه عقاب، وكلمة (تجوال) لها مفهوم عام؛ فالتجوال قد يكون إما ماشيا أو راكبا، وهذا هو المقصود في البيان الرسمي أو اللافتة المنصوبة في الطرقات، ولكن المخرج العراقي مهند هادي، ذهب إلى أبعد من ذلك؛ فالتجوال في التعبير والخواطر والأفكار والإحساسات وهذا ما كان عصيا على الاحتلال الأميركي أن يقيم الحظر عليه.* المسرحية السورية(كأس سقراط الأخير) مونودراما قدمها المسرح القومي سورية، تأليف موفق مسعود وإخراج وتمثيل زيناتي قدسية.إن ارتباط كأس السم الذي حكم على سقراط بشربه لما اعتقدته المحكمة بهرطقته، قد شكل سيميائية ثنائية بين بنات أفكاره التي تساقطت ذبيحة صرعى من الداخل؛ فإن الكأس هي وعاء الأفكار التي يتبناها الإنسان ويشربها حتى الثمالة؛ فتسري في عروقه، وتغذي قلبه، وتصنع عقله، وكم من شاعر وأديب وعالم قتل بسبب شربه من كأس أقواله ومبادئه وأفكاره، والأخير هنا تحتمل معنيين الأول سلبا لأنها- أي الأفكار- قد تموت معه من خلال كأسه الأخيرة، وإيجابا لأنها- أي الأفكار- قد تخلد بموته وتصبح سمة، كان من الممكن أن يحكم على سقراط بالقتل بطريقة الإعدام شنقا أو رميا من عل أو بحد السيف، إلا أن إصرار المحكمة على إعدامه بالسم هو قتل الأفكار واجتثاثها من الداخل.* المسرحية الفلسطينية (الجدار) «فرقة مسرح وسينماتيك الفلسطينية، تأليف الفرقة، إخراج جورج إبراهيم». نعم المسرحية صوّرت معاناة الفلسطينيين من هذا الجدار وقد أضر بالزرع والحرث وخلق عدة مشكلات في تقسيم الأراضي الزراعية ومصادرة كثير منها، أضف إلى ذلك المعاناة اليومية في المواصلات والتنقلات. ولكن هل نقف بلفظة (الجدار) عند حد معاناة الفلسطينيين ماديا منه؟ لماذا لا نعكس النظرية فيصبح الجدار يمثل بسيميائيته الإرادة الفلسطينية الصلبة، وأن هذا الجدارهو صناعة فلسطينية فرضتها على العدو الصهيوني خوفا ورعبا من قوة إيمان الفلسطينيين وتمسكهم بأرضهم، فحينما يلجأ العدو الصهيوني إلى بناء الجدار هذا يعني أنه لم ولن يستطيع الانصهار والاندماج في المجتمع الفلسطيني فهو جسم غريب ومرفوض جملة وتفصيلا، وإلا ما تفسير احتلال إسرائيل للأرض كاملة ثم تقوم بعد ذلك وتبني جدارا في منتصفها أو جزء منها غير الخوف والرعب من قامة الفلسطيني التي علت هذا الجدار. كلنا يعرف أن أرض فلسطين تناوبت على استيطانها أمم وشعوب شتى، وفي كل مرة ترجع إلى أحضان أهلها وسكانها العرب الأصليين من المسلمين والمسيحيين، وأنه من الخطأ الفادح ذلك الذي أقدمت عليه إسرائيل باحتلالها أرض فلسطين، فلن يهدأ لها بال، ولن تنعم بالأمن والأمان والاستقرار، ولن ترى حضارة أو تسويقـاً تجاريًّا، أو معايشة إقليمية أو دولية، وسوف تمضي بقلق سياسي، واضطراب عسكري حتى تخرج منها؛ وسوف تخرج منها عاجلا أم آجلا.* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com