غريب ما يجري في أميركا في هذه الأيام. اقرأ صحفها أو شاهد محطاتها التلفزيونية، من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها، ولن تجد كاتبا أو معلقا أو مقدم برامج واحدا يحب دونالد ترامب. الجميع يحذرك من خطر فوزه بالرئاسة، ويتفنّن في تعداد سيئاته وإدانة أفكاره المتطرفة وتعليقاته اللاذعة التي لا توفر أحداً.رجال السياسة الأميركيون، جمهوريين وديموقراطيين ومستقلين، وكثير منهم في المناصب الرسمية، تخلّوا عن كل اللياقات، ليحذروا علنا من الشر المستطير الذي سيحل على أميركا لو أصبح ترامب رئيسا.أنظر إلى دول العالم، وستجد أن ترامب غير محبوب في أي منها. بالأمس في مقابلته مع «نيويورك تايمز» حول السياسة الخارجية، عاود هجومه على السعودية و«الحلفاء العرب»، مهددا بوقف شراء نفطهم إذا لم يدفعوا لواشنطن «ثمن» قتالها «داعش». ولم يوفّر اليابان وكوريا الجنوبية، متوعدا بسحب القوات الأميركية منهما وتركهما فريسة لأعدائهما لأن أميركا لا يجب أن تدفع من جيبها لحماية الآخرين فيما هم لا يفعلون شيئا، ثم انتقل إلى ألمانيا، منتقدا إياها لأنها تركت العبء كله على بلاده التي أصبحت أمة «مديونة»، عندما ضمت روسيا القرم واجتاحت أوكرانيا.قبلها كان عدد من النواب البريطانيين دعوا بلادهم لمنع ترامب من دخولها بعد أن أهان قوات الأمن البريطانية، وعرضت إحدى المدن الكندية توفير ملاذ للهاربين منه في حال فوزه بالرئاسة.إيران ايضا هاجمته بعد أن قال انه سيلغي الاتفاق النووي إذا وصل للرئاسة. وحتى إسرائيل لا تريد ترامب الذي قال انه سيجلعها تدفع ثمن المساعدة العسكرية التي تأتيها من الولايات المتحدة، رغم أنه عاد وحاول مغازلة اليهود خلال كلمته أمام مؤتمر «إيباك» بوعود مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها «عاصمة أبدية» لإسرائيل.الوحيد الذي أبدى إعجابه بترامب من بين زعماء العالم هو فلاديمير بوتين، ولكن هذا الإعجاب (المتبادل) يبقى على المستوى الشخصي، إذ هناك الكثير مما يمنع تحوله إلى علاقة من النوع نفسه بين البلدين.إذهب إلى عائلة ترامب المباشرة، وأيضا ستفاجأ بمن بدأ يتحسس إساءته ليس فقط لأميركا وإنما لمجموعة الأعمال التي يملكها أيضا.فقد ورد في تقرير لـ "واشنطن بوست" أن ابنته إيفانكا، وهي الوجه الناعم لمجموعة الأعمال هذه، صارت تتجنب الحديث في السياسة في مقابلاتها الصحافية وإطلالاتها التلفزيونية، أو تتعمد اختيار كلماتها بعناية، حتى تحد من تأثير أفكاره المتطرفة على العلامة التجارية للمجموعة، بعد حملة مقاطعة لها في الولايات المتحدة وخارجها، رغم أن إيفانكا تقول انها تدعمه لأنه والدها.الغريب أنه اذا كان كل هؤلاء ضد ترامب، فكيف أمكنه ان يكتسح منافسيه الجمهوريين في ولاية تلو الاخرى، ثم يصبح مرشحا له حظوظ كبيرة في الفوز بالرئاسة نفسها؟ ويبدو انه كلما اقترب موعد الانتخابات المقررة في نوفمبر المقبل كلما زادت هذه الحظوظ.هل كل هؤلاء منفصلون عن الواقع؟ أم أن ترامب يمثل ما يريده الأميركيون حقا، وكثيرون ممن يرغبون بوصوله هم فقط يخجلون من الجهر بذلك؟اذا دققنا في برنامج ترامب فسنجد ان أوباما يعتمد جزءا منه. فالانسحاب من العالم لتخفيف الكلفة على الولايات المتحدة، فكرة طبقها بالفعل أوباما حين سحب قوات بلاده من العراق ثم جزئيا من افغانستان، وحين رفض التدخل براً ضد تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش)، وحين وقع الاتفاق النووي مع إيران لتخفيف الحاجة الى القوات الاميركية في الشرق الاوسط وخفض كلفتها.الارجح ان هذه سياسة اميركية، فالأميركيون كانوا يسألون لماذا نرسل قواتنا الى هنا او هناك بدءا من حرب فيتنام. لكن ما يفعله اوباما بخفر وبعيدا عن الاضواء، يقوله ترامب على الملأ وبفظاظة.مع ذلك يريد ترامب لاميركا دورا آخر. لا يريدها ان تروج لقيمها في الخارج مقابل الاستفادة الاقتصادية غير المباشرة التي تجنيها من ذلك. ولا يريد لها كما يقول ان تكون شرطي هذا العالم... بل ربما البلطجي الذي يحمي مقابل الاتاوة ويعاقب للامتناع عن دفعها.
مقالات
ترامب يريد أميركا «بلطجي» العالم لا شرطيه
06:33 ص