خمسة أعوام مرّت على الصراع في سورية، الذي بدأ بهتاف من اجل الكرامة والحرية وانتهى الى حرب عالمية في البلاد التي يتهاوى فيها النظام من دون ان يسقط، وتترنّح في أصقاعها ثورةٌ سرقها التطرف.خمسة أعوام بدأتْ بـ «ربيع» وسرعان ما تحولت خريفاً بعدما قمع النظام التحركات الشعبية السلمية و«عسْكرها» بعنفه المفرط فانزلقت سورية إلى حروب مدمرة غيّرت وجهها.مئات الآلاف من القتلى وأكثر بكثير من الجرحى والمعوقين، وملايين النازحين في صراعٍ صار اقليمياً ودولياً في سورية وعليها وسط كرّ وفرّ في الميدان والديبلوماسية. ولم تعد سورية اللاهبة مشكلة سورية بعدما هدد حريقها دول المنطقة ووصل وهجه الى دول العالم قاطبة مع قوافل اللاجئين الذين «يغزون» سواحل اوروبا ويهددون استقرارها.في الذكرى الخامسة لحرب سورية تمخّض المجتمع الدولي فوُلدت «هدنة عسكرية» أتاحت العودة الى طاولة التفاوض بين النظام والمعارضة بإشراف الامم المتحدة وسط توقعات بأن الأمر لا يعدو جولة من جولات القتال على الأرض وعلى... الطاولة.«الراي» تقارب الاوضاع في سورية بعد خمسة اعوام على «حروبها» بسلسلة من التحقيقات تُنشر على حلقات...تزداد هواجس الأقليات في سورية في ظلّ غياب رؤى واضحة لدى المعارضة لجهة وضع خريطة طريق مُطَمْئِنة تزيل تخوّف هذه الأقليات من وصول الإسلاميين الى الحكم كبديل عن النظام القائم بما يهدّد هوياتهم وحقوقهم ويجعلهم يواجهون أخطاراً لا تختلف عن التي يعيشونها حالياً وعرفوها ماضياً في ظل النظام البعثي.حسب الاحصاءات، تشكل الأقليات الإثنية والدينية في سورية أكثر من 40 في المئة من عدد السكان، وتتألف من مذاهب المسلمين والمسيحيين وقوميات تتباين ثقافاتها، كالأكراد والشراكس والتركمان والأرمن والآشوريين، وقد تعرضت رموزها المعارِضة لمختلف أصناف القمع والاضطهاد بغية تطويعها. وإذ لازمت في غالبيتها الصمت والخضوع لإملاءات السلطة خلال عقود طويلة تحت هواجس شتى، الا ان تاريخها شهد حركات ونشاطات مناهضة لسياسات الاستبداد من خلال أحزاب وشخصيات معارضة عانت من السجون والإفقار والمنافي.«الراي» حاورت عضويْ الائتلاف الوطني السوري بسام يوسف (من الطائفة العلوية) وجبر الشوفي (من الطائفة الدرزية) وعضو مجلس القضاء المستقل المنشق القاضي ابراهيم حسين حول موقف الاقليات من الثورة وماذا تريده وما الضمانات التي ترضيها وماهية المخاوف التي يجب تذليلها.يوضح يوسف بداية انه في سورية، كما في مجتمعات الدول المحيطة حيث توجد اقليات، لم يتم «صهر الهويّات الصغرى داخل هويّة وطنيّة تشكّل انتماءً لأفراد هذه المجتمعات، ومشكلة نكوص كل المكوّنات الى هوياتها الصغرى وإزاحة الهويات الكبرى لا تخصّ العلويّين في سورية وحدهم بل تنطبق بتمايزات متفاوتة على كلّ مكوّنات المجتمع السوريّ»، مضيفاً: «في اي حال، ومن خلال قراءة تجربة العراق ولبنان وغيرهما، يتضح الدور الذي لعبه غياب الهويّة الكبرى».ويشير الى انه «عند انفجار الثورة، قسم من الغالبية في سورية وليس فقط الاقليات طرح سؤال الى اين؟ وتبين في ما بعد ان الثورة لم تستطع الاجابة عن هذا السؤال وقيادتها تتحمل كل المسؤولية في ذلك، وخصوصاً ان غالبية الاجابات كانت ضبابية، بينما النظام سارع الى إلباس الثورة ثوب المؤامرة والارهاب والتطرف».واذ يلفت الى «ان الثورة في بدايتها كانت نخبوية قبل ان تؤدي المجريات اللاحقة لاصطفاف افراد المجتمع خلف رؤى معينة»، يعترف يوسف بنجاح النظام «في تفتيت المجتمع السوريّ، وجعل المرجعيّات الطائفيّة والقوميّة المحدِّد لاصطفاف السوريّين، ولا يشمل هذا الطائفة العلويّة فقط بل يشمل الجميع بمَن فيهم المكوّن الأكبر في المجتمع السوريّ، اي الطائفة السنّيّة».ويوضح ان «نخبة من العلويّين شاركتْ في الثورة منذ بدايتها، لكنّ تقدُّم الخطاب الدينيّ والطائفيّ في المراحل اللاحقة من عمر الثورة بسبب أخطاء المعارضة والضخّ الإعلاميّ للنظام وبعض وسائل الإعلام التي ادّعت وقوفها بجانب الثورة، ساهم في تشكيل معايير جديدة لاصطفافات جديدة»، لافتاً الى ان «احتلال الطائفة العلويّة موقعاً استثنائيّاً له اسباب كثيرة، منها انتماء رأس النظام لها، وعدم قدرة المعارضة على تكريس الاختلاف الأساسي بين النظام (الذي هو تحالف مافيويّ يشمل عسكريّين واقتصاديّين ورجال دين من مختلف الطوائف) وبين الطائفة بصفتها مكوّنا، مثلها مثل أيّ مكوّن آخر في المجتمع السوريّ. فقد طمس هذا الاختلاف مما أضعف إلى حدّ كبير من انخراط العلويّين داخل الثورة، ومنها أيضاً التداخل الدينيّ والتاريخيّ في صوغ موروث تمّ تضخيم المظلوميّة فيه».ويرى ان من الخطأ القول إنّ «العلويّين يجدون مصلحتهم في بقاء النظام أو في رحيله. فهم يدركون جيّداً أنّ التحدّي الرئيسيّ الذي يواجههم هو تحدّي الأمان، وبالتالي فإنّ خيارهم الوحيد هو الخيار الذي يضمن لهم أمنهم، وهم يدركون جيّداً أن لا أهمّيّة لهم عند النظام، وهم وقوده في معركته للبقاء، لكنّهم حتّى هذه اللحظة يقفون أمام خيارات السيئ والأسوأ».ويعتبر ان «الخطأ القاتل الذي وقعت فيه المعارضة السوريّة هو تعميم الفكرة التي تجعل العلويّين كلّهم في موقع الاتّهام». ويشير الى ان «في المرحلة المقبلة سيكون هناك كشف للكثير من الحقائق وتعريتها وإخضاع كلّ الجرائم التي ارتُكبت بحقّ الشعب السوريّ إلى محاكم قانونيّة محايدة، هذا الأمر هو الوحيد الذي سيمكّن فئات المجتمع السوريّ من استعادة ثقتها ببعضها»ويقول: «ان اتّهام الطائفة العلويّة ككلّ، أو أيّ مكوّن آخر (كما يحدث اليوم مع الأكراد) بسفك الدم السوريّ، ليس في مصلحة الثورة السوريّة، وليس في مصلحة سورية المقبلة. فالتركيز على توصيف المجرمين والقتلة بتوصيفات حقوقيّة وقانونيّة وسياسيّة والامتناع عن توصيفهم طائفيّاً، هو ضرورة وطنيّة تفتح الباب أمام محاكمتهم، أمّا التوصيف الطائفيّ لهم فيعقّد من هذا الأمر، لأنّه سيُعتبر لاحقاً محاكمة لطائفة أو قوميّة».من جهته، يؤكد الشوفي، وهو سياسي معارض بارز من بلدة السويداء الدرزية ومعتقل سابق انخرط في دعم الثورة السورية منذ بداية أحداث درعا، انه ليس «ناطقاً باسم طائفة ولا مكلفاً بالإجابة عنها، لأنني أنطلق من هويتي السورية ومنسجم مع أهداف الثورة في التغيير السياسي وصولاً إلى دولة المواطَنة الضامنة لحقوق الجميع بالعدل والمساواة، ومَن يكُن مع الثورة لا يخاف نتائجها مهما تعثّر دربها وغلت التضحيات».ويوضح ان «الذين يخافون الثورة هم اولاً مَن يقفون خارج الهمّ السياسي الوطني ولا يملكون حساً ثورياً ويفضّلون السكينة والبلادة على مبدأ، من ياخذ أمي يصير عمي، وثانياً مَن هم مرتبطون بالنظام القائم بمصالحهم ومستقبلهم، وهناك مَن هم خاضعون لتأثيرات وارتباطات مشوهة أو مشبوهة، وهناك عصبويون لا يملكون القدرة على الاندماج الوطني ويعيشون في انقطاع وعزلة ثقافية واجتماعية ذات أبعاد مختلفة وهي ظاهرة عند كل الطوائف بنسب وأشكال متباينة».ويقول: «كثيرة هي مبررات الخوف عند هذه الفئات التي تفضّل السلامة والهدوء واقعياً، وأحدها الانطواء على شعور باطني عميق يرفض الآخر ويخاف الأكثرية، فهو يسوق الأمثلة من الفصائل الإسلامية القائمة ايديولوجيتها على إلغاء الآخر واستباحة دمه وعرضه وماله وكيانه، والأمثلة على ذلك كثيرة. ورغم أنّ هذه الفصائل تهدّد جميع الوطنيين والديموقراطيين وحتى السنّة المخالفين، إلا أنها عند الطوائف جميعها تحمل رعبها الخاص، ومواجهتها تحمل كلفة كبيرة بالدم والمال، ويضاف إلى ذلك توهّم أنّ هؤلاء السلفيين العصابيين يستندون إلى مصادر فقهية وشرعية تجعلهم منهم كابوساً مرعباً، فالخوف من وصول هؤلاء مبني على الإقصاء والإلغاء وإقامة الحدود، ومن المؤسف أنّ كثيراً من فقهاء السنّة وعلمائها لم يتصدّوا كما يجب لهذه التشريعات ولم يكفروا داعش والمتشددين بحجة انهم لا يكفرون مَن ينطق بالشهادة».ويشدد على ان «مصلحة الدروز تكمن في سوريتهم وليس في انعزالهم»، مضيفاً: «لا أرضية سياسية ولا اجتماعية للقائلين بكيان درزي، وهم قلة مرتبطة بأجندات خارجية مفضوحة تحاول أن تستثمر في حال الفوضى والتشتت القائمة على الساحة السورية، وليس لهؤلاء أي تأثير خطير خارج المخاطر المهدِّدة لسورية الكيان والدولة والمجتمع».ويرى انه «في واقع الصراع القائم على الأقلّ، لا أحد يستطيع أن يعطي ضمانة لأحد ولا سيما إذا كان غائباً عن المشهد ولم يثبت حضوره فيه، فالضمانة للجميع هي في العمل على تنشيط فعالية القوى الديموقراطية والمعتدلة، بين السوريين جميعاً وتوحيد جهودهم في كل المجالات السياسية والإعلامية التنويرية، ليقتنع الجميع أن ليس هناك أي نظام حكم قادر على حفظ وصيانة وحدة بلادنا وهويتها التعددية التشاركية سوى إقامة دولة المواطَنة، دولة الحق والقانون، وهذا لا يخصّ مَن يتوهمون أنهم أصحاب الثورة وانهم مَن يقرر أسلوب الحكم وطبيعته، بل هذا همّ الجميع فالسلطة هي للشعب ومن أجله وليس للبندقية أو للقوة والهيمنة».ويلفت الى ان «ضمانة الحقوق لا تكون إلا بإرادة السوريين وتَوافُقهم على دستور جديد يلحظ كل المشكلات العالقة، وأوّلها حقوق القوميات المتعايشة تاريخياً مع العرب كالكرد والتركمان والسريان وغيرهم من الطوائف المختلفة، وذلك يتم بإقرار الحقوق المتساوية وحرية العبادة وإبعاد التحكم بحياة الناس ومعتقداتهم»، مضيفاً: «ليتعظ أهلنا من الحروب الدينية التي اجتاحت اوروبا ثلاثين عاماً بين 1614- 1644 ولم تستقر إلا بعد معاهدة وستفاليا وإقرار حرية العبادة والمعتقد للجميع، وهو ما أقرّته القوانين العلمانية اللاحقة التي تحمي حرية جميع الأديان وتتخذ موقفاً حيادياً حيال الجميع، ولكن الدستور أيضاً لا يحكم بلا سلطة مدنية دستورية ومجتمع سياسي ومدني بحيث يعمل الجميع على تطبيق الدستور وأحكامه».ويشير الى انه «ليس للدروز قراءة واحدة ولا مرجعية تتحدث باسمهم أو ترسم لهم منهجية وطريقاً خاصاً، إنما هم كغيرهم من السوريين يساورهم القلق والخوف على مستقبلهم ومستقبل بلادهم، وُيجمِع كل المهتمين بالشأن العام والمؤمنون بأهداف الثورة على ضرورة الحل السياسي الضامن للتغيير السياسي نحو الديموقراطية والحفاظ على الهوية السورية الموحدة وضرورة التفافها على حماية ما تبقّى من البلاد والعباد، وإعادة إعمار ما تهدَّم في النفوس قبل البناء، وتوفير أسس العيش الكريم، وهذا لا يتمّ إلا عبر التغيير الديموقراطي القائم على التعددية والتشارك بالمسؤولية، والقبض بقوة على القرار الوطني عبر التصدي لقوى الثورة المضادة ونظام القتل والجريمة والوصول لمرحلة انتقالية تعبر بنا إلى دولة دستورية وتطبيق العدالة الانتقالية».بالنسبة الى عضو مجلس القضاء السوري الحر المستقل القاضي إبراهيم حسين، فانه يرى ان «من الظلم الفادح اتهام الكرد بأنهم يقفون مع النظام. والصحيح أن نقول إن فئة من الكرد تقف معه. والحالة الكردية هنا لا تختلف عن حالة سائر المكوّنات، حيث توجد فئات ضمن كل مكوّن تقف مع النظام تماماً كما ان ثمة فئات تعارضه وتحاربه. وغالبية الكرد ممّن يقفون اليوم مع النظام بشكل علني أو مبطن ينتمون لحزب الاتحاد الديموقراطي، وهو الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني الذي كانت له على الدوام علاقات متينة مع دمشق».لكنه يشير «للانصاف وللتاريخ فإن الاحزاب الكردية بمجملها وقفت موقفاً مضطرباً من الثورة في البدايات، على عكس الشارع الكردي الذي رفع صوته مبكراً وأعلن بوضوح وقوفه مع الثورة»، موضحاً ان «الأسباب تختلف باختلاف الأحزاب، فالأحزاب التقليدية الكردية التي حاولت معارضة النظام على مدى عقود فشلت في تحقيق تغيير، ولذلك تماهتْ مع النظام بشكل لاشعوري كنتيجة طبيعية لفشلها ذاك».وتابع: «لا أقصد هنا أنها أصبحت عميلة للنظام، لكنها باتت تستمدّ وجودها من وجود النظام، واستشعرت بالتالي بالخطر جراء ظهور تنسيقيات شبابية وخشيت أنها ستسحب البساط من تحتها فنأت بنفسها عن الثورة في البدايات، ليس حباً بالنظام ولا مؤازرة له. ومع الأيام عرفت كيف تفكك هذه التنسيقيات وتضعها تحت جناحها بشكل أو بآخر ثم أفقدتها وجودها لتصبح مجرد ذكرى. وبعد تأسيس المجلس الوطني الكردي بفترة، انضوت غالبية الأحزاب تحت لواء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة».وتابع: «المعارضة السورية المنظّمة وباعتبارها فشلت في تحقيق ما هو مطلوب منها لأسباب موضوعية وذاتية، داخلية وخارجية، كان من الطبيعي أن تضطرب ازاء القضية الكردية، وذلك لعدم درسها الحالة الكردية بشكل واضح ومتكامل ولعدم مراعاة حساسيتها ولعدم قدرتها على استقطاب التنسيقيات الشبابية، بل سعت جاهدة لاستقطاب الأحزاب التقليدية، الأمر الذي أضعف التنسيقيات وبالتالي ضاع صوتهم وأصبح الصوت الكردي الوحيد الظاهر إما صوت الواقفين مع النظام أو صوت المضطربين الضبابيين، مع الاشارة إلى أن الاتفاق الذي وقّعه الائتلاف مع المجلس الوطني الكردي هو اتفاق متقدم ومتطور ويلبي في رأيي رغبات الكرد السوريين ويطمئنهم، لكن عيبه الوحيد أنه جاء متأخراً جداً».وعن المشكلات الحقيقية للكرد في سورية قبل الثورة، يقول: «لم يعد يخفى على أحد المظالم التي لحقت بهذا الشعب على أيدي الانظمة المتعاقبة على الحكم، وهذه المظالم لا تنفصل عن المظالم التي لحقت بالشعب السوري عموماً، حيث ان النظام كان ينوّع من مظالمه تبعاً للحالة المناطقية والديموغرافية. ويمكن القول مثلاً إن حرمان الكرد من التعلم بلغتهم ومن التعبير عن ثقافتهم وخصوصيتهم هو ظلم بيّن. عداك عن مسألة التجريد من الجنسية لعدد كبير منهم ومنْعهم من التطوع في صفوف الجيش والشرطة إلا في حالات نادرة. وهناك أمثلة كثيرة عن وجوه الظلم التي لا تتسع المساحة لذكرها هنا».ويشير الى أن «هناك نسبة كبيرة من الكرد باتوا مؤمنين بأن حل قضيتهم يكون بالتعاون مع سائر السوريين وهم يحلمون ببناء دولة المواطَنة الحقة التي ستجعلهم متساوين مع غيرهم في الحقوق والواجبات، وكما كان تاريخ سورية قبل الاستبداد دليلاً على مشاركة الكرد في بناء سورية والدفاع عنها، فإن المستقبل أيضاً سيثبت ذلك».
متفرقات - قضايا
خمسة أعوام من «الجحيم» السوري... نظام يتهاوى وثورة تترنح (4 - 4)
الأقليات في سورية بين هويتين صغرى وكبرى... خيار دولة المواطنة
07:17 ص