هذه بداية سلسلة لمقالات تربوية علمية متخصصة تسلط الضوء على مفهوم حديث نسبياً، يتعلق بكفاية وفاعلية نظامنا التربوي التعليمي، وهو ما يُشير إليه عنوان مقالتنا أعلاه.حيث تسعى معظم الدول جاهدة إلى تطوير نظمها التعليمية والتربوية ومواكبتها بما هو حديث وفاعل، والعمل على تجويد مخرجاتها، بما يحقق لها التعليم المتميز الذي يصنع النهضة والتنمية الحقيقة لها، لاسيما أننا نعيش في عصر يُقاس فيه تقدم الأمم والشعوب بما تمتلكه من رأسمال فكري، قادر على الإبداع والتطوير وصناعة التغيير ورسم المستقبل المشرق لأمته.كما أن النظم التربوية تسعى نحو تحقيق الأهداف المحددة سلفاً وفق رؤى وسياسات المجتمع التي تنبثق من فلسفته الكبرى، ويضع النظام التربوي معايير ومؤشرات تجعل من ممارسات منتسبيه أقرب إلى الكفاية والفاعلية نحو تحقيق تلك الأهداف في مخرجاته التربوية، ولضمان ذلك أوجدت النظم التربوية في المجتمعات المتقدمة نظماً فرعية داخل النظام التربوي تُعنى بالمتابعة والرقابة والتحقق من سير الممارسات نحو تحقيق الأهداف المنشودة مجتمعيا، وهي ما يسمى بنظم المساءلة التربوية (الراسبي، 2015، 11).إذ ان الاهتمام بالمساءلة في النظام التربوي يُعد مؤشراً مُهماً على حرص التربويين، ورغبتهم في الارتقاء بمستوى أدائهم، والواقع أن الاهتمام بالمساءلة يُعد مُرادفاً للاهتمام بالإصلاح التربوي، وذلك بحُكم أن أي إصلاح حقيقي لابد أن ينطوي على تقبل الفرد لتحمل المسؤولية عن أعماله سلباً أو إيجاباً (الحسن، 2010، 11). فالمساءلة في التربية تُشكل مطلباً لفئات وشرائح المجتمع كافة للتأكد من تحقيق النظم التربوية لتوقعات مجتمعاتها، خاصة واننا نلاحظ الكثير من التساؤلات تُثار حول مدى فاعلية وكفاية مخرجات النظم التربوية ومدى نجاحها في بناء الأطر المعرفية والقيمية والاتجاهية والمهارية لمدخلاتها البشرية من المُتعلمين، وكذلك ما يتوقع منها من خدمة للمجتمع ومن إثراء للمعرفة والفكر الإنساني إضافة إلى ومخرجها الرئيس وهو بناء الإنسان الصالح (الداهوك، 2014، 2).وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم المساءلة قد ورد في القرآن الكريم في تسعة مواضع، فعلى سبيل المثال فقد ورد في قوله عز وجل (وقفوهم إنهم مسئولون) (الصافات، آية 24). أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا (تفسير ابن كثير).في حين ورد مفهوم المساءلة في السنة المُطهرة، حيث جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته قال وحسبت أن قد قال والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته» ) رواه البخاري).كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عُمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه» (رواه الترمذي).وبهذا، فالمساءلة لم تكن من صنع إنسان أو جماعة أو دولة، وإنما كانت تقريراً من رب العالمين ليكون الإنسان مسؤولا عن عمله محاسبا على قصوره ومجزيا على نجاحه (العمري، 2012، 74).وقد تزايد الاهتمام بموضوع المساءلة في التربية Educational Accountability خلال العقدين الماضيين في ظل التوجهات الحديثة للإصلاح التربوي، وذلك في سبيل مواجهة عصر العولمة والثورة المعرفية والتقنية التي باتت تُشكل تحديات كبرى لأنظمة التربية والتعليم في العصر الحالي. فالمساءلة التربوية توجد لها رسالة هادفة أساسها الإصلاح والتقويم ورفع كفاءة أداء العاملين ومن ثم رفع كفاءة وفاعلية النظام التربوي بكافة عناصره (الزعبي، 2003، 3).ومن هنا فإن المساءلة بمعناها التربوي الحديث لا تعني إلحاق الضرر بالأشخاص أو المؤسسات، ولا تعني إجراء المحاكمات وتعنيف الأشخاص، بل تعني التوجيه والتعاون وحسن الإفادة من الخبرات النافعة وتبادلها، ووضع ذلك في إطار إنساني يستند إلى القيم الأخلاقية القائمة على العدالة والمساواة بما يكفل تحسين الكفايات التعليمية بتحسين القائمين عليها (عايش، 2009، 193).تعريفات المساءلة:لقد تعددت التعريفات التي تناولت مفهوم المساءلة، والتي يمكن إجمالها بالآتي:- تعريف أخوا رشيدة (2004، 36):مسؤولية الفرد عن تحقيق نتاجات محددة وفق معايير وأنظمة محددة، وفي حال وجود أي خلل في أي من هذه العناصر فعلى الفرد الاستعداد للإجابة عن السؤال المُتوقع (لماذا حدث ذلك؟).- تعريف اليونسكو (UNESCO, 2002, 127):تعني التأكيد من قبل المؤسسة التعليمية للمستفيدين بأنها تُقدم تعليماً نوعياً.- تعريف الطويل (2006):المساءلة التربوية هي جملة من العمليات والأساليب التي يتم بمقتضاها التحقق من أن الأمور تسير وفقا لما هو مخطط لها، وضمن أقصى المستطاع، ولذلك فالمساءلة ليست تحقيقا أو محاكمة، بل القصد منها أن الأداء يتم ضمن الأطر التي حددتها الأهداف والمرامي وفق المعايير المتفق عليها للوصول بالنظام إلى مستوى متميز من الكفاية والفعالية.يتضح للقارئ الكريم مما سبق بأن المساءلة تقوم على ركيزة أساسية تدور حول عملية تقويم الأداء لكافة المستويات بدءاً بالمتعلم والمعلم، والمدرسة، وقطاعات وزارة التربية وأجهزتها وانتهاءً بقمة الهرم للنظام التعليمي بغية تحقيق وضمان جودة التعليم.وفي المقالة الآتية بإذن الله سوف نتطرق إلى معايير المساءلة وأنواعها وخصائصها بشيء من التفصيل.* اختصاص القياس والتقويم التربويالمراجع- الطويل، هاني (2006). الإدارة التعليمية، مفاهيم وآفاق. (ط3). الأردن، عمان: دار وائل.- الحارثي، عبد الله بن صالح (2008). بناء أنموذج للمساءلة التربوية في وزارة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية. رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة مؤتة، عمان، الأردن.- الحارثي، عبد الله بن صالح (2013). المساءلة التربوية. الأردن، عمان: دار اليازوري.- الداهوك، هبة وهيب (2014). تصور مقترح لتطوير ممارسة المساءلة الذكية لدى مديري مدارس وكالة الغوث الدولية بمحافظة غزة. رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة الإسلامية بغزة، فلسطين.- المهدي، مجدي صلاح (2008). المساءلة التعليمية، رؤية الفكر وواقع التطبيق. القاهرة: دار الجامعة الجديدة.- الراسبي، زهرة بنت ناصر (2015). تصميم أنموذج مساءلة الأداء في النظام التربوي. الأردن، عمان: دار الخليج.- الراسبي، زهرة بنت ناصر (2006). تطوير أنموذج مساءلة الأداء في النظام التربوي بسلطنة عمان. أطروحة دكتوراه غير منشورة، الجامعة الأردنية، عمان، الأردن.- عايش، أحمد (2005). المساءلة التربوية. مجلة المعلم، 16، (7)، 6-14.- أخوا رشيدة، عالية (2004). درجة وعي المعلمين والمعلمات في المدارس الثانوية العامة بمفهوم المسائلة وعلاقتها بفاعلية المدرسة. أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة عمان العربية للدراسات العليا، عمان، الأردن.
محليات - ثقافة
رؤى / المساءلة في النظام التربوي (1)
09:27 ص