| القاهرة - من حنان عبدالهادي |
إذا كانت الأفلام المصرية... اشتهرت في خمسينات وستينات القرن الماضي، بالنهايات السعيدة... كانتصار قوى الخير على الشر، أو التقاء الحبيبين، بعدما ظنا كل الظن ألا تلاقيا، وزفافهما بين الأهل والأحباب والأصحاب... فإن المشهد الأخير في حياة عدد غير قليل من الفنانين والمشاهير المصريين والعرب كثيرا ما بدا مأساويا مؤلما مفعما بالحزن.
ففي لحظة فارقة... تنطفئ أضواء النجومية، ويضعف الجسد الذي كان يوما ممشوقا يصول ويجول أمام الكاميرات، ويقدم أصعب الأدوار وأعنفها.
في لحظة فارقة... تكتفي الحياة بما قدمته لفنان ما، وتقول له «يكفيك هذا... لقد حانت نهايتك»... وشتان بين إقبال الحياة وإدبارها وتبسمها وسخريتها، وعطفها وقسوتها، وفارق كبير... بين أن تربت على كتفيك وتفيض عليك بحنانها، وبين أن تركلك بأرجلها، كما يركل اللاعب الكرة.
كم كان مؤلما... المشهد الأخير في حياة فنانين أثروا الشاشتين الصغيرة والكبيرة بأعمال مميزة، لاتزال باقية في الذاكرة، أو مطربين ومطربات أثروا وجداننا ببديع أصواتهم، أو نجوم ومشاهير في مجالات أخرى... كان لهم حضور قوي... وتأثير واسع، سرعان ما ينهار ويندثر.
فبينما كان النجم أحمد زكي يواصل تألقه وإبداعه الفني، باعتباره «حالة فنية مختلفة»... أوقفه المرض الخبيث، وأخفى حالة من الحزن في الوسط الفني، لم تنته بعد، وبالرغم من مرور نحو 4 أعوام على وفاته، ويشبهه شكلا ومصيرا عبد الله محمود الذي قتله السرطان في ريعان شبابه.
كما جاءت نهاية ممثلة بسيطة وطيبة القلب مثل وداد حمدي مؤلمة... عندما غدر بها «ريجسير»، وقتلها في شقتها، من دون أن تقترف في حقه إثما، وفي أوج تألقها... أمطر رجل الأعمال المصري أيمن السويدي زوجته المطربة التونسية ذكرى بـ «21» طلقة، لتقضي نحبها في الحال.
وهكذا تتعدد النهايات الحزينة لفنانين ومشاهير... طالما أمتعونا وأسعدونا، وطالما عاشوا عقودا من الشهرة والأضواء والثراء... ولكن الأقدار... التي يصرفها البارئ... كيف يشاء... وفي السطور التالية... نهايات مع الفقر والحاجة والمرض والنسيان وأشياء أخرى.
استحق الفنان المصري الراحل أحمد زكي، الذي فارق في أوج نجوميته وهو في منتصف الخمسينات، مكانة فنية بارزة، لم يشاركه فيها أحد من أبناء جيله، فلم يكن مجرد ممثل مر مرور الكرام، بل كان صاحب بصمة في جميع أدواره، فمثلما أبدع في بداية رحلته في تجسيد شخصية عميد الأدب العربي طه حسين في «الأيام»... تميز في دور البواب في فيلم «البيه البواب»... كما صال وجال عندما قدم شخصيتي «ناصر والسادات».
البداية
بدأ أحمد زكي حياته يتيما بائسا، حيث مات والده وهو في عامه الأول فمال إلى تأمل من حوله... وكان أقدر على التعبير عما بداخله بعيونه ودموعه، سكن داخله الحزن... لكنه لم يستسلم للإحباطات التي واجهها، وخاض تجربة التمثيل، وكان مقتنعا بما يفعل، فرحبت به السينما المصرية، وفتحت له ذراعيها وبالرغم من تعدد أعماله، وتنوع أدواره، وتعدد مشاهده... إلا أن المشهد الأخير من حياته... جاء حزينا جدا... حيث أخذ يصارع مرض السرطان الذي داهمه وانتشر في جميع أجزاء جسده.
البداية
بدأت المشاهد الأولى من حياته، عندما ولد الطفل أحمد زكي عبدالرحمن العام 1949 بمدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية «85 كيلو مترا شرق القاهرة» ومات والده وهو في عامه الأول فأصبح يتيما وتزوجت أمه بعد رحيل والده مباشرة، فتربى الطفل الصغير في كنف جده، وبين كل هذه الأحداث نشأ زكي وبداخله حالة من الصمت يرقب من حوله ويعبر بنظراته لكنه لا ينطق كلمة أمي أو أبي... فهو فقط يشاهد كل ما يدور حوله، ولأنه لم يعش طفولة عادية... أصبح التأمل مغروسا بداخله وتغلغل في كل مراحل حياته وكان دائما في حالة صدام بينه وبين العالم الخارجي فهو لم يعش طفولته فكان يشعر أنه كبر قبل الأوان لدرجة أنه كان يذهب إلى بيوت الأصدقاء ليشعر بطعم السعادة ويستشعر بعض الضحك الذي افتقده كثيرا وهو يعيش بدون حنان يحتويه.
كان أحمد زكي يجد في المسرح متنفسه... حيث التحق بعالم المسرح منذ صغره، وأصبح رئيسا لفريق التمثيل في مدرسته الابتدائية ومدرسته الإعدادية ولحسن حظه... أن ناظر المدرسة كان يهوى التمثيل مثله وفي وقت بسيط أصبح أحمد زكي هاويا للتمثيل والإخراج المسرحي على مستوى طلاب المدرسة.... ثم التحق بمدرسة الزقازيق الثانوية، ومنها إلى المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي تخرج منه العام 1973 من قسم التمثيل بتقدير امتياز... وكانت «مدرسة المشاغبين»... إحدى العلامات الفارقة في حياة أحمد زكي وعبر عنها جيدا فبالرغم من أنه قام بالتمثيل مع ملوك الضحك آنذاك «عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي وحسن مصطفى وعبدالله فرغلي»، لكنه تفاعل معهم وواجه الجمهور - كتلميذ غلبان - يعطف عليه الناظر قال عنه النقاد: إنه كان «الدمعة في جنة الضحك» في تلك المسرحية... فأحمد زكي في هذه المسرحية لفت الأنظار إليه بالرغم من أنه كان الزبون القديم لمقاعد الدرجة الثالثة في دور السينما والمسرح.
تنقل بعد ذلك أحمد زكي من المسرح إلى التلفزيون... ثم السينما، وكان في كل مرحلة يلفت إليه الأنظار بأدائه الصادق فترجم ذلك لجوائز... حصل عليها لتفوقه في أدائه... وبالرغم من أن أحد المخرجين رفض أن يقوم أحمد زكي بتمثيل دور البطولة التي منحت له وتفاعل معه الجمهور وأحبه لأنه يحمل ملامح الفتى المصري المكافح وهو يعبر في فترة الثمانينات عن هؤلاء الكادحين ويرون فيه أنفسهم فهو في أفلامه الفتى الأسمر الذي لا يهتم بملابسه وله شعر مجعد ويقوم بحركات تلقائية بسيطة تدخل قلب الشعب المصري والعربي ليصبح بعد ذلك أحمد زكي هو ذلك الفتى الذي أحب الجمهور أداءه لأنه عبر عن نموذج عادي لأشخاص عاديين يقابلهم الشخص ويتعامل معهم كل يوم في الطريق.
أدوار بطولة
كانت هناك علامات فارقة في مشاهد حياة أحمد زكي الفنية إحداها دور البطولة الذي قدمه في مسلسل «الأيام» عندما قام بأداء دور طه حسين عميد الأدب العربي وهنا قام النقاد بإجراء مقارنة بينه وبين محمود ياسين فتى الشاشة الأول في فترة السبعينات حيث قدم نفس الدور في السينما، وهنا المقارنة كانت في صالح أحمد زكي الذي قدم تفاصيل حياة طه حسين في المسلسل وبذلك استطاع أن يبرز أدق مشاعره وأيضا المقارنة هنا جعلت أحمد زكي يقفز إلى مكانة لم يسبقه إليها أحد.
وكانت العلامة الثانية... عندما قام ببطولة فيلم «شفيقة ومتولي» أمام سعاد حسني، وكانت سعاد حسني... قد أصرت على أن يكون أحمد زكي بطلا في هذا الفيلم وساندته في ذلك،
أما العلامة الثالثة... فقد كان قيام أحمد زكي بدور ثانوي في فيلم «الباطنية» وكان بين عملاقي السينما فريد شوقي ومحمود ياسين، وفوجئ أن الجوائز قد انهالت عليه وحده وتلك الجوائز كانت بمثابة شهادة من لجان التحكيم بأنه قد ترك بصمة وأثرا في نفوسهم.
الجائزة الأولى
ثم جاء فيلم «طائر على الطريق» العام 1981 وحصل أحمد زكي على الجائزة الأولى وبذلك استطاع أن يحجز لنفسه مكانا في الصف الأول، وكانت انطلاقة أحمد زكي العام 1982، حيث قام بتمثيل «الأقدار الدامية» و«العوامة رقم 70»، وفي العام 83 انسحب أحمد زكي من الأضواء بشكل ملحوظ ليعود مرة أخرى في العام 1984 بشكل أكثر حيوية.
وفي أحد حوارته سرد أحمد زكي بداياته الفنية، وأيضا ما كان يحدث داخل نفسه من مشاعر وأحاسيس يعبر فيها بتلقائية عما يجيش بداخله فقال عن نفسه «جئت إلى القاهرة وأنا في العشرين من عمري للالتحاق بالمعهد، والطموح والمعاناة والوسط الفني وصعوبة التجانس معه، عندما تكون قد قضيت حياتك في الزقازيق مع أناس بسطاء بلا عُقد عظمة ولا هيستريا شهرة ثم الأفلام والوعود والآلام والأحلام.
وفجأة وفي يوم عيد ميلادي الثلاثين... نظرت إلى السنين التي مرت وقلت: «أنا سُرقت... نشلوا مني 10 سنوات، فعندما يكبر الواحد يتيما تختلط الأشياء في نفسه، الابتسامة بالحزن والحزن بالضحك والضحك بالدموع»!
أنا إنسان سريع البكاء، لا أبتسم، لا أمزح... صحيح آخذ كتاب ليلة القدر لمصطفى أمين وأقرأ فيه وأبكي، أدخل إلى السينما وأجلس لأشاهد ميلودراما درجة ثالثة فأجد دموعي تسيل وأبكي، عندما أخرج من العرض وآخذ وأقوم بتحليل الفيلم، قد أجده سخيفا وأضحك من نفسي لكن أمام المآسي أبكي بشكل غير طبيعي، أو ربما هذا هو الطبيعي، ومن لا يبكي هو في النهاية إنسان يسجل أحاسيسه ويكتبها.
وقد تكون تلك الأحاسيس المرهفة التي يعبر عنها أحمد زكي لأنه قد ولد يتيما كان يريد من يحنو عليه وهو طفل صغير.
الطفولة اليتيمة
ويستطرد أحمد زكي في وصف مشاعره الجياشة فيقول: المثقفون يستعملون كلمة اكتئاب... ربما أنا مكتئب، أعتقد أنني شديد التشاؤم... شديد التفاؤل، أنزل إلى أعماق اليأس، وتحت أعثر على أشعة ساطعة للأمل لدى صديق عالم نفساني ساعدني كثيرا في السنوات الأخيرة ويؤكد أن هذا كله يعود إلى الطفولة اليتيمة أيام كان هناك ولد يود أن يحنو عليه أحد ويسأله ما بك.
ويحكي أحمد زكي عن طفولته اليتيمة فيقول: في العاشرة كنت وكأنني في العشرين، وفي العشرين شعرت كأنني في الأربعين، عشت دائما أكبر من سني وفجأة يوم عيد ميلادي الثلاثين أدركت أن طفولتي وشبابي قد «نشلا» حياتي ميلودراما كأنها من أفلام حسن الإمام، والدي توفي وأنا في السنة الأولى، أتى بي ولم يكن في الدنيا سواه وأنا، وها هو يتركني ويموت،
أمي كانت فلاحة صبية، لا يجوز أن تظل عزباء فزوجوها وعاشت مع زوجها، وكبرت أنا في بيوت العائلة، بلا اخوة، ورأيت أمي للمرة الأولى وأنا في السابعة، ذات يوم جاء إلى البيت امرأة حزينة جدا، ورأيتها تنظر إلىّ بعينين حزينتين ثم قبلتني دون أن تتكلم ورحلت وشعرت باحتواء غريب... وهذه النظرة إلى الآن تصحبني حتى اليوم عندما تنظر إلي أمي.
فالنظرة الحزينة ذاتها تنظر... وفي السابعة من عمري أدركت أنني لا أعرف كلمة أب وأم، وإلى اليوم عندما تمر في حوار مسلسل أو فيلم كلمة بابا أو ماما، أشعر بحرج ويستعصي علي نطق الكلمة.
«عندما كنت طالبا في مدرسة الزقازيق الثانوية، كنت منطويا جدا لكن الأشياء تنطبع في ذهني بطريقة عجيبة تصرفات الناس، ابتساماتهم، سكوتهم من ركني المنزوي كنت أراقب العالم وتراكمت في داخلي الأحاسيس وشعرت بحاجة لكي أصرخ، لكي أخرج ما في داخلي، وكان التمثيل هو المنقذ، ففي داخلي دوامات من القلق لاتزال تلاحقني فأصبح المسرح بيتي، رأيت الناس تهتم بي وتحيطني بالحب فقررت أن هذا هو مجالي الطبيعي».
بعد ذلك بفترة اشتركت في مهرجان المدارس الثانوية، ونلت جائزة أفضل ممثل - على مستوى مدارس الجمهورية - حينما سمعت أكثر من شخص يهمس: الولد ده إذا أتى إلى القاهرة يمكنه دخول معهد التمثيل والقاهرة بالنسبة لي كانت مثل الحجاز في الناحية الأخرى من العالم... السنوات الأولى في العاصمة كانت سنوات صعبة ومثيرة في الوقت ذاته ومن يوم أن أتيت إلى القاهرة اعتبرت أنني أجدت مرتين في امتحان الدخول إلى المعهد ويوم التخرج.
ابنه الوحيد
كان أحمد زكي متزوجا من الفنانة الراحلة هالة فؤاد وأنجب منها ابنه الوحيد هيثم الذي أكمل بعد والده فيلم حليم... آخر أفلام أحمد زكي.
ومن وجهة، نظر السينمائيين فقد كان أحمد زكي أهم موهبة في فن التمثيل في مصر، وذلك خلال الثلاثين عاما الأخيرة من خلال أفلام منها «البيه البواب» و«سواق الهانم» و«أرض الخوف» و«شفيقة ومتولي»، و«كابوريا» و«هيستريا» و«ضد الحكومة» و«الهروب».
مشهد النهاية
جاء مشهد النهاية في حياة الفنان أحمد زكي... عندما اكتشف إصابته بمرض السرطان في الرئة العام 2004 وبدأ علاجه في مصر، ثم انتقل إلى باريس... حيث طلب منه الاستمرار بالعلاج الكيماوي وبعد عودته ساهم في علاجه فريق طبي صيني في مستشفى دار الفؤاد.
وتعرض أحمد زكي خلال قيامه بتصوير فيلم عن الفنان عبدالحليم حافظ «حليم» الذي كتب له السيناريو محفوظ عبدالرحمن وقام بإخراجه شريف عرفة تعرض أثناءه إلى جلطة في أوردة الركبة والساقين إلا أنه كان يعود لاستكمال التصوير الذي أنهى منه ما يقرب من 90 في المئة من المشاهد التي يتضمنها الفيلم باستثناء مشهد الوفاة، وكانت الشركة المنتجة «جودنيوز» أقامت حفلا كبيرا بمناسبة بداية تصوير الفيلم «رسائل البحر» لداود عبدالسيد قبل فيلم «حليم» لكن الطبيب الفرنسي المعالج نصح في حينه أحمد زكي بعدم القيام بذلك لأن الفيلم يتضمن مشاهد مرهقة.
كان أحمد زكي يعتبر أن حماسه لتجسيد فيلم «حليم» له أسباب شخصية ومنها التشابه بينهما في الإصابة بمرض البلهارسيا وموت أبويهما، وقد أصر أحمد زكي أن يتم تصويره في المستشفى على سرير المرض حتى تتم الاستفادة بها في المشهد الأخير في حياة عبدالحليم حافظ، ولم يكن هذا المشهد هو المشهد الأخير في حياة حليم فقط بل في حياة أحمد زكي... الذي كان يشبهه في كثير من جوانب حياته وقد ولدا ايضا في نفس المحافظة «الشرقية».
وقد دخل أحمد زكي المستشفى... في حالة صحية حرجة نتيجة لمضاعفات الورم السرطاني في صدره وانتشاره إلى الكبد والغدد الليمفاوية في البطن، ومعاناته من استسقاء بروتيني واصابته بالتهاب رئوي وضيق حاد في الشعب الهوائية.
وكان من المقرر وصول الطبيب الفرنسي لمتابعة حالة أحمد زكي، وذلك بعد أن أصيب بغيبوبة عميقة لم يفق منها، وأظهرت التحاليل وصول المرض الخطير إلى المخ، وحاول الأطباء بكل ما في وسعهم... لكي تمر اللحظات الأخيرة في حياة الفنان من دون ألم، وكانت تلك الغيبوبة العميقة التي أصيب بها جاءت له أثناء تجوله بالكرسي المتحرك في حديقة المستشفى الذي يعالج فيه حتى توفي ظهر الاثنين 28 مارس العام 2005.
إذا كانت الأفلام المصرية... اشتهرت في خمسينات وستينات القرن الماضي، بالنهايات السعيدة... كانتصار قوى الخير على الشر، أو التقاء الحبيبين، بعدما ظنا كل الظن ألا تلاقيا، وزفافهما بين الأهل والأحباب والأصحاب... فإن المشهد الأخير في حياة عدد غير قليل من الفنانين والمشاهير المصريين والعرب كثيرا ما بدا مأساويا مؤلما مفعما بالحزن.
ففي لحظة فارقة... تنطفئ أضواء النجومية، ويضعف الجسد الذي كان يوما ممشوقا يصول ويجول أمام الكاميرات، ويقدم أصعب الأدوار وأعنفها.
في لحظة فارقة... تكتفي الحياة بما قدمته لفنان ما، وتقول له «يكفيك هذا... لقد حانت نهايتك»... وشتان بين إقبال الحياة وإدبارها وتبسمها وسخريتها، وعطفها وقسوتها، وفارق كبير... بين أن تربت على كتفيك وتفيض عليك بحنانها، وبين أن تركلك بأرجلها، كما يركل اللاعب الكرة.
كم كان مؤلما... المشهد الأخير في حياة فنانين أثروا الشاشتين الصغيرة والكبيرة بأعمال مميزة، لاتزال باقية في الذاكرة، أو مطربين ومطربات أثروا وجداننا ببديع أصواتهم، أو نجوم ومشاهير في مجالات أخرى... كان لهم حضور قوي... وتأثير واسع، سرعان ما ينهار ويندثر.
فبينما كان النجم أحمد زكي يواصل تألقه وإبداعه الفني، باعتباره «حالة فنية مختلفة»... أوقفه المرض الخبيث، وأخفى حالة من الحزن في الوسط الفني، لم تنته بعد، وبالرغم من مرور نحو 4 أعوام على وفاته، ويشبهه شكلا ومصيرا عبد الله محمود الذي قتله السرطان في ريعان شبابه.
كما جاءت نهاية ممثلة بسيطة وطيبة القلب مثل وداد حمدي مؤلمة... عندما غدر بها «ريجسير»، وقتلها في شقتها، من دون أن تقترف في حقه إثما، وفي أوج تألقها... أمطر رجل الأعمال المصري أيمن السويدي زوجته المطربة التونسية ذكرى بـ «21» طلقة، لتقضي نحبها في الحال.
وهكذا تتعدد النهايات الحزينة لفنانين ومشاهير... طالما أمتعونا وأسعدونا، وطالما عاشوا عقودا من الشهرة والأضواء والثراء... ولكن الأقدار... التي يصرفها البارئ... كيف يشاء... وفي السطور التالية... نهايات مع الفقر والحاجة والمرض والنسيان وأشياء أخرى.
استحق الفنان المصري الراحل أحمد زكي، الذي فارق في أوج نجوميته وهو في منتصف الخمسينات، مكانة فنية بارزة، لم يشاركه فيها أحد من أبناء جيله، فلم يكن مجرد ممثل مر مرور الكرام، بل كان صاحب بصمة في جميع أدواره، فمثلما أبدع في بداية رحلته في تجسيد شخصية عميد الأدب العربي طه حسين في «الأيام»... تميز في دور البواب في فيلم «البيه البواب»... كما صال وجال عندما قدم شخصيتي «ناصر والسادات».
البداية
بدأ أحمد زكي حياته يتيما بائسا، حيث مات والده وهو في عامه الأول فمال إلى تأمل من حوله... وكان أقدر على التعبير عما بداخله بعيونه ودموعه، سكن داخله الحزن... لكنه لم يستسلم للإحباطات التي واجهها، وخاض تجربة التمثيل، وكان مقتنعا بما يفعل، فرحبت به السينما المصرية، وفتحت له ذراعيها وبالرغم من تعدد أعماله، وتنوع أدواره، وتعدد مشاهده... إلا أن المشهد الأخير من حياته... جاء حزينا جدا... حيث أخذ يصارع مرض السرطان الذي داهمه وانتشر في جميع أجزاء جسده.
البداية
بدأت المشاهد الأولى من حياته، عندما ولد الطفل أحمد زكي عبدالرحمن العام 1949 بمدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية «85 كيلو مترا شرق القاهرة» ومات والده وهو في عامه الأول فأصبح يتيما وتزوجت أمه بعد رحيل والده مباشرة، فتربى الطفل الصغير في كنف جده، وبين كل هذه الأحداث نشأ زكي وبداخله حالة من الصمت يرقب من حوله ويعبر بنظراته لكنه لا ينطق كلمة أمي أو أبي... فهو فقط يشاهد كل ما يدور حوله، ولأنه لم يعش طفولة عادية... أصبح التأمل مغروسا بداخله وتغلغل في كل مراحل حياته وكان دائما في حالة صدام بينه وبين العالم الخارجي فهو لم يعش طفولته فكان يشعر أنه كبر قبل الأوان لدرجة أنه كان يذهب إلى بيوت الأصدقاء ليشعر بطعم السعادة ويستشعر بعض الضحك الذي افتقده كثيرا وهو يعيش بدون حنان يحتويه.
كان أحمد زكي يجد في المسرح متنفسه... حيث التحق بعالم المسرح منذ صغره، وأصبح رئيسا لفريق التمثيل في مدرسته الابتدائية ومدرسته الإعدادية ولحسن حظه... أن ناظر المدرسة كان يهوى التمثيل مثله وفي وقت بسيط أصبح أحمد زكي هاويا للتمثيل والإخراج المسرحي على مستوى طلاب المدرسة.... ثم التحق بمدرسة الزقازيق الثانوية، ومنها إلى المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي تخرج منه العام 1973 من قسم التمثيل بتقدير امتياز... وكانت «مدرسة المشاغبين»... إحدى العلامات الفارقة في حياة أحمد زكي وعبر عنها جيدا فبالرغم من أنه قام بالتمثيل مع ملوك الضحك آنذاك «عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي وحسن مصطفى وعبدالله فرغلي»، لكنه تفاعل معهم وواجه الجمهور - كتلميذ غلبان - يعطف عليه الناظر قال عنه النقاد: إنه كان «الدمعة في جنة الضحك» في تلك المسرحية... فأحمد زكي في هذه المسرحية لفت الأنظار إليه بالرغم من أنه كان الزبون القديم لمقاعد الدرجة الثالثة في دور السينما والمسرح.
تنقل بعد ذلك أحمد زكي من المسرح إلى التلفزيون... ثم السينما، وكان في كل مرحلة يلفت إليه الأنظار بأدائه الصادق فترجم ذلك لجوائز... حصل عليها لتفوقه في أدائه... وبالرغم من أن أحد المخرجين رفض أن يقوم أحمد زكي بتمثيل دور البطولة التي منحت له وتفاعل معه الجمهور وأحبه لأنه يحمل ملامح الفتى المصري المكافح وهو يعبر في فترة الثمانينات عن هؤلاء الكادحين ويرون فيه أنفسهم فهو في أفلامه الفتى الأسمر الذي لا يهتم بملابسه وله شعر مجعد ويقوم بحركات تلقائية بسيطة تدخل قلب الشعب المصري والعربي ليصبح بعد ذلك أحمد زكي هو ذلك الفتى الذي أحب الجمهور أداءه لأنه عبر عن نموذج عادي لأشخاص عاديين يقابلهم الشخص ويتعامل معهم كل يوم في الطريق.
أدوار بطولة
كانت هناك علامات فارقة في مشاهد حياة أحمد زكي الفنية إحداها دور البطولة الذي قدمه في مسلسل «الأيام» عندما قام بأداء دور طه حسين عميد الأدب العربي وهنا قام النقاد بإجراء مقارنة بينه وبين محمود ياسين فتى الشاشة الأول في فترة السبعينات حيث قدم نفس الدور في السينما، وهنا المقارنة كانت في صالح أحمد زكي الذي قدم تفاصيل حياة طه حسين في المسلسل وبذلك استطاع أن يبرز أدق مشاعره وأيضا المقارنة هنا جعلت أحمد زكي يقفز إلى مكانة لم يسبقه إليها أحد.
وكانت العلامة الثانية... عندما قام ببطولة فيلم «شفيقة ومتولي» أمام سعاد حسني، وكانت سعاد حسني... قد أصرت على أن يكون أحمد زكي بطلا في هذا الفيلم وساندته في ذلك،
أما العلامة الثالثة... فقد كان قيام أحمد زكي بدور ثانوي في فيلم «الباطنية» وكان بين عملاقي السينما فريد شوقي ومحمود ياسين، وفوجئ أن الجوائز قد انهالت عليه وحده وتلك الجوائز كانت بمثابة شهادة من لجان التحكيم بأنه قد ترك بصمة وأثرا في نفوسهم.
الجائزة الأولى
ثم جاء فيلم «طائر على الطريق» العام 1981 وحصل أحمد زكي على الجائزة الأولى وبذلك استطاع أن يحجز لنفسه مكانا في الصف الأول، وكانت انطلاقة أحمد زكي العام 1982، حيث قام بتمثيل «الأقدار الدامية» و«العوامة رقم 70»، وفي العام 83 انسحب أحمد زكي من الأضواء بشكل ملحوظ ليعود مرة أخرى في العام 1984 بشكل أكثر حيوية.
وفي أحد حوارته سرد أحمد زكي بداياته الفنية، وأيضا ما كان يحدث داخل نفسه من مشاعر وأحاسيس يعبر فيها بتلقائية عما يجيش بداخله فقال عن نفسه «جئت إلى القاهرة وأنا في العشرين من عمري للالتحاق بالمعهد، والطموح والمعاناة والوسط الفني وصعوبة التجانس معه، عندما تكون قد قضيت حياتك في الزقازيق مع أناس بسطاء بلا عُقد عظمة ولا هيستريا شهرة ثم الأفلام والوعود والآلام والأحلام.
وفجأة وفي يوم عيد ميلادي الثلاثين... نظرت إلى السنين التي مرت وقلت: «أنا سُرقت... نشلوا مني 10 سنوات، فعندما يكبر الواحد يتيما تختلط الأشياء في نفسه، الابتسامة بالحزن والحزن بالضحك والضحك بالدموع»!
أنا إنسان سريع البكاء، لا أبتسم، لا أمزح... صحيح آخذ كتاب ليلة القدر لمصطفى أمين وأقرأ فيه وأبكي، أدخل إلى السينما وأجلس لأشاهد ميلودراما درجة ثالثة فأجد دموعي تسيل وأبكي، عندما أخرج من العرض وآخذ وأقوم بتحليل الفيلم، قد أجده سخيفا وأضحك من نفسي لكن أمام المآسي أبكي بشكل غير طبيعي، أو ربما هذا هو الطبيعي، ومن لا يبكي هو في النهاية إنسان يسجل أحاسيسه ويكتبها.
وقد تكون تلك الأحاسيس المرهفة التي يعبر عنها أحمد زكي لأنه قد ولد يتيما كان يريد من يحنو عليه وهو طفل صغير.
الطفولة اليتيمة
ويستطرد أحمد زكي في وصف مشاعره الجياشة فيقول: المثقفون يستعملون كلمة اكتئاب... ربما أنا مكتئب، أعتقد أنني شديد التشاؤم... شديد التفاؤل، أنزل إلى أعماق اليأس، وتحت أعثر على أشعة ساطعة للأمل لدى صديق عالم نفساني ساعدني كثيرا في السنوات الأخيرة ويؤكد أن هذا كله يعود إلى الطفولة اليتيمة أيام كان هناك ولد يود أن يحنو عليه أحد ويسأله ما بك.
ويحكي أحمد زكي عن طفولته اليتيمة فيقول: في العاشرة كنت وكأنني في العشرين، وفي العشرين شعرت كأنني في الأربعين، عشت دائما أكبر من سني وفجأة يوم عيد ميلادي الثلاثين أدركت أن طفولتي وشبابي قد «نشلا» حياتي ميلودراما كأنها من أفلام حسن الإمام، والدي توفي وأنا في السنة الأولى، أتى بي ولم يكن في الدنيا سواه وأنا، وها هو يتركني ويموت،
أمي كانت فلاحة صبية، لا يجوز أن تظل عزباء فزوجوها وعاشت مع زوجها، وكبرت أنا في بيوت العائلة، بلا اخوة، ورأيت أمي للمرة الأولى وأنا في السابعة، ذات يوم جاء إلى البيت امرأة حزينة جدا، ورأيتها تنظر إلىّ بعينين حزينتين ثم قبلتني دون أن تتكلم ورحلت وشعرت باحتواء غريب... وهذه النظرة إلى الآن تصحبني حتى اليوم عندما تنظر إلي أمي.
فالنظرة الحزينة ذاتها تنظر... وفي السابعة من عمري أدركت أنني لا أعرف كلمة أب وأم، وإلى اليوم عندما تمر في حوار مسلسل أو فيلم كلمة بابا أو ماما، أشعر بحرج ويستعصي علي نطق الكلمة.
«عندما كنت طالبا في مدرسة الزقازيق الثانوية، كنت منطويا جدا لكن الأشياء تنطبع في ذهني بطريقة عجيبة تصرفات الناس، ابتساماتهم، سكوتهم من ركني المنزوي كنت أراقب العالم وتراكمت في داخلي الأحاسيس وشعرت بحاجة لكي أصرخ، لكي أخرج ما في داخلي، وكان التمثيل هو المنقذ، ففي داخلي دوامات من القلق لاتزال تلاحقني فأصبح المسرح بيتي، رأيت الناس تهتم بي وتحيطني بالحب فقررت أن هذا هو مجالي الطبيعي».
بعد ذلك بفترة اشتركت في مهرجان المدارس الثانوية، ونلت جائزة أفضل ممثل - على مستوى مدارس الجمهورية - حينما سمعت أكثر من شخص يهمس: الولد ده إذا أتى إلى القاهرة يمكنه دخول معهد التمثيل والقاهرة بالنسبة لي كانت مثل الحجاز في الناحية الأخرى من العالم... السنوات الأولى في العاصمة كانت سنوات صعبة ومثيرة في الوقت ذاته ومن يوم أن أتيت إلى القاهرة اعتبرت أنني أجدت مرتين في امتحان الدخول إلى المعهد ويوم التخرج.
ابنه الوحيد
كان أحمد زكي متزوجا من الفنانة الراحلة هالة فؤاد وأنجب منها ابنه الوحيد هيثم الذي أكمل بعد والده فيلم حليم... آخر أفلام أحمد زكي.
ومن وجهة، نظر السينمائيين فقد كان أحمد زكي أهم موهبة في فن التمثيل في مصر، وذلك خلال الثلاثين عاما الأخيرة من خلال أفلام منها «البيه البواب» و«سواق الهانم» و«أرض الخوف» و«شفيقة ومتولي»، و«كابوريا» و«هيستريا» و«ضد الحكومة» و«الهروب».
مشهد النهاية
جاء مشهد النهاية في حياة الفنان أحمد زكي... عندما اكتشف إصابته بمرض السرطان في الرئة العام 2004 وبدأ علاجه في مصر، ثم انتقل إلى باريس... حيث طلب منه الاستمرار بالعلاج الكيماوي وبعد عودته ساهم في علاجه فريق طبي صيني في مستشفى دار الفؤاد.
وتعرض أحمد زكي خلال قيامه بتصوير فيلم عن الفنان عبدالحليم حافظ «حليم» الذي كتب له السيناريو محفوظ عبدالرحمن وقام بإخراجه شريف عرفة تعرض أثناءه إلى جلطة في أوردة الركبة والساقين إلا أنه كان يعود لاستكمال التصوير الذي أنهى منه ما يقرب من 90 في المئة من المشاهد التي يتضمنها الفيلم باستثناء مشهد الوفاة، وكانت الشركة المنتجة «جودنيوز» أقامت حفلا كبيرا بمناسبة بداية تصوير الفيلم «رسائل البحر» لداود عبدالسيد قبل فيلم «حليم» لكن الطبيب الفرنسي المعالج نصح في حينه أحمد زكي بعدم القيام بذلك لأن الفيلم يتضمن مشاهد مرهقة.
كان أحمد زكي يعتبر أن حماسه لتجسيد فيلم «حليم» له أسباب شخصية ومنها التشابه بينهما في الإصابة بمرض البلهارسيا وموت أبويهما، وقد أصر أحمد زكي أن يتم تصويره في المستشفى على سرير المرض حتى تتم الاستفادة بها في المشهد الأخير في حياة عبدالحليم حافظ، ولم يكن هذا المشهد هو المشهد الأخير في حياة حليم فقط بل في حياة أحمد زكي... الذي كان يشبهه في كثير من جوانب حياته وقد ولدا ايضا في نفس المحافظة «الشرقية».
وقد دخل أحمد زكي المستشفى... في حالة صحية حرجة نتيجة لمضاعفات الورم السرطاني في صدره وانتشاره إلى الكبد والغدد الليمفاوية في البطن، ومعاناته من استسقاء بروتيني واصابته بالتهاب رئوي وضيق حاد في الشعب الهوائية.
وكان من المقرر وصول الطبيب الفرنسي لمتابعة حالة أحمد زكي، وذلك بعد أن أصيب بغيبوبة عميقة لم يفق منها، وأظهرت التحاليل وصول المرض الخطير إلى المخ، وحاول الأطباء بكل ما في وسعهم... لكي تمر اللحظات الأخيرة في حياة الفنان من دون ألم، وكانت تلك الغيبوبة العميقة التي أصيب بها جاءت له أثناء تجوله بالكرسي المتحرك في حديقة المستشفى الذي يعالج فيه حتى توفي ظهر الاثنين 28 مارس العام 2005.