ثمانية قرون، من القرن السابع حتى الخامس عشر، والبيزنطيون يتجادلون في مجالسهم: ما طبيعة المسيح؟ وهل الملائكة ذكور أم إناث؟ وهل إبليس ضخم بحيث لا يسعه مكان، أم ضئيل بحيث يدخل في ثقب إبرة؟وتدخّل الإمبراطور قسطنطين الثاني حين ضجت كنائس ببيزنطة بهذا الجدل العقيم؛ فأصدر مرسوماً يعاقب فيه المجادلين بالطرد من الوظيفة ومصادرة الأملاك بل وبالعقاب البدني... لكنْ عبثاً.وفي يوم تاريخي فاصل، في عهد قسطنطين الحادي عشر، كان مجلس شيوخ بيزنطة في مجادلاته العقيمة، والسلطان العثماني محمد الثاني(الفاتح) يقتحم أسوار بيزنطة ويدخل شوارعها فاتحاً. سقطت بيزنطة وخرست ألسنة المجادلين.لكنْ إلى حين! فهناك كثير من المجادلين البيزنطيين في عصرنا، شرقاً وغرباً. وكثير من المدائن المحاصرة تسقط. (مجلس الأمن الدولي- الخماسي اللعنة) أكبر مجلس للجدل البيزنطي العبثي في عصرنا. القلق ينهش أعضاءه، والجدل لولبٌ على ألسنتهم التي طالت حتى صارت أطول من (لسان العرب). المسؤول الأممي يسافر كابن بطوطة من عاصمة إلى أخرى، يجتمع في جلسات بيزنطية مغلقة مع كبار المجادلين: يناقش، يحاور، يجادل، يناقض، يتناقض، يبشر كالأنبياء ببارقة أمل ثم... يستقيل!ولا يقتصر الجدل البيزنطي على دهاليز السياسة ودُهاتها في (مجلس النفاق الجدلي الدولي)، بل على شؤون الدنيا والدين، في كثير من الميادين مما نعيشه ونكابده يومياً.في اللغة والأدب عندنا؛ جدل بيزنطي آخر: ماتعريف الشعر؟ ما موقفنا من الشعر الحديث ذلك (اللقيط !؟) وهل (قصيدة النثر) شعر أم نثر فني؟ ما القصيدة وما النثيرة؟ هل الشعر العمودي الخطابي شعر؟ لا، لقد مات الخليل بن أحمد الفراهيدي.ويجادل اللغويون: لغتنا أرقى وأعظم اللغات. بل اللغة الإنكليزية هي لغة العالم وهي أسهل اللغات وأروعها. الألفاظ الدخيلة حشرات لغوية، سوس ينخر لآلئ لغتنا. لا للتغريب. لابد من التعريب. التعريب مؤامرة. لغتنا قادرة على تسمية أي منجَز تقني من منجزات العصر الحديث وفي كل العلوم .لا، بل لغتنا عاجزة؛ والدليل نفور الأجيال منها، واعتماد الإنكليزية لغةً لتعليم الطب والعلوم المختلفة.هذه بعض لمحات من جدلنا البيزنطي ونحن محاصرون في عصرنا!أحمد لطفي السيد من عمالقة النهضة الثقافية في فكرنا الحديث وهو مثقف موسوعي. كان مديراً لدار الكتب المصرية العريقة، ومن السياسيين البارزين في عصره. ترجم كتاب الأخلاق لأرسطو في جزأين كبيرين في سنة1924. وكان مهتماً بتأسيس مجمع للغة العربية سنة 1916على غرار الأكاديمية الفرنسية. وتم التأسيس مع نخبة من المثقفين واللغوين. وترأس هو منصب سكرتير المجمع. وأنقل من كتابه (قصة حياتي) ما يثير الضحك المر: «ومن ألطف ما أذكره عن هذا المجمع أننا مكثنا سنة كاملة (؟!) نتناقش في... جواز التعريب! وقد انطوى هذا المجمع ولم يعمر طويلاً».ومن حسن الحظ أنه بُعث بعد ذلك. لكنْ تأملوا هذا الجدل البيزنطي: سنة كاملة لمناقشة جواز التعريب! تُرى كم من الإنجازات المادية والكلمات التقنية استحدثها العالم الآخر أثناء هذه السنة الجدلية العقيمة؟اليوم نحن محاصرون، و(مجلس شيوخ أمتنا) مشغول عن هذا الحصار الحضاري بجدل بيزنطي- عربي عقيم، من أعضاء المجلس الخالد، عن العدالة، والحرية، والانتخابات، والديمقراطية، والإرهاب، والدستور!( الفاتح!) يدق أبوابنا، ويدك أسوارنا، جنوده في شوارعنا، ونحن عنه ذاهلون. تلك هي لعنة الجدل (العربي) التي نعيشها بعد أن عشقنا وورثنا الجدل البيزنطي.* كاتب سوري