تشكل الانتخابات النيابية الفرعية في جزين (الجنوب) التي أقرّ مجلس الوزراء اللبناني أخيراً الاعتمادات المالية لاجرائها، حيثية سياسية لافتة لسببين، أوّلهما ان مجلس النواب المنتخَب العام 2009 رفض اجراء الانتخابات النيابية العامة ومدّد لنفسه مرتين بأعذار راوحت تارة بين عدم الاتفاق على قانون للانتخاب وتارة اخرى نتيجة الاوضاع الأمنية والسياسية التي تمر بها البلاد. والسبب الثاني ان انتخابات جزين 2009 حملت دلالات سياسية بارزة اذ خاض ركنا قوى 8 آذار رئيس البرلمان نبيه بري ورئيس «تكتل التغيير والاصلاح» العماد ميشال عون مواجهة فيها بلائحتين كاملتين اسفرت عن فوز عون بمقاعد جزين الثلاثة.اليوم تطرح الانتخابات الفرعية التي تجرى بسبب شغور أحد المقاعد المارونية بوفاة النائب ميشال حلو، اشكالية متعددة الجوانب، سواء لجهة اعتبار البعض انها لزوم ما لا يلزم، او لجهة إصرار «التيار الوطني الحر» (عون) على إجرائها وملء المقعد الماروني الشاغر كتأكيد لأحقية التيار بهذا المقعد وإثباتاً لوجوده وموقعه في اعادة انتخاب اي مرشح يدعمه التيار. علماً ان قضاء جزين يتمثل في البرلمان بثلاثة مقاعد مسيحية: مارونيان وكاثوليكي.جزين والاستحقاق الانتخابيلطالما شكلت جزين كمدينة وكقضاء واقعاً مستقلاً، فهي في الجغرافيا تتبع محافظة الجنوب لكن واقعها وحيثياتها السياسية والمارونية جعلتها وكأنها في قلب جبل لبنان، هي الواقعة على تخومه وحدود قضاء الشوف، أحد اقضية جبل لبنان.ثمة طرق عدة توصل الى جزين التي كان يعتبرها اهل صيدا مصيفهم قبل ان تشلع الحرب أواصر العلاقات الانسانية والصداقات والجيرة فقطعت الطرق وعزلت جزين. ومن دير القمر، قلب الشوف، الى جزين ساعة واحدة تجعل الآتي الى المدينة المشهورة بشلالها وبتمثال العذراء على مدخلها وبصنع السكاكين الجزينية وأدوات الطعام الخزفية، يستمتع بالجبال والقرى قبل ان يصل الى جزين، التي كان يفصلها عن قضاء الشوف خلال الحرب معبر صار اسمه شهيراً «معبر باتر جزين».لجزين قصة طويلة مع الاحتلال الاسرائيلي ومع «حزب الله». قصة الحرب التي جعلتها المدخل الى الشريط الحدودي الذي أقامته اسرائيل إبان احتلالها الجنوب، وفي نفس الوقت خارجه، وجعلتها ايضاً عرضة للاستنزاف ابان عمليات «حزب الله» ضد اسرائيل ما ادى الى مقتل عدد من ابنائها المدنيين بعمليات تفجير متعددة، الامر الذي ادى الى صرخة عارمة حاولت القوى السياسية معها معالجة التدهور الذي لحق بجزين وبأبنائها.لم يكن وضع جزين سهلاً خلال الحرب الطويلة، والتي هجرت اليها المئات من أبناء الشوف بعد حرب الجبل العام 1982، لكنها بقيت في صلب اهتمام المسيحيين والكنيسة المارونية والفاتيكان الذي أوفد اليها موفدا بابوياً هو المونسنيور سيلستينو بوهيغاز بين 1985 – 1990.رغم انتهاء الحرب الاهلية بمفهومها العسكري من خلال اتفاق الطائف، الا ان جزين أسوة ببلدات محافظتيْ الجنوب والنبطية ومدنهما، بقيت تعاني من وطأة الاحتلال الاسرائيلي، الى ان انتهى العام 1999 بانسحاب «ميليشيا جيش لبنان الجنوبي» منها قبل ان تنسحب اسرائيل من الشريط الحدودي كله العام 2000، فعادت هذه المنطقة في صورة رسمية الى حضن الدولة. رغم ان كثيرين لا يعرفون ان مؤسسات الدولة الرسمية بقيت تعمل بالحد الادنى في بلدات الشريط الحدودي وجزين ايضاً.وجزين تاريخياً حافلة بالبيوت السياسية، وقد اشتهر سياسيّوها وأبرزهم نوابها الثلاثة الذين انتُخبوا العام 1972 وظلوا بفعل الحرب والتمديد يمثلونها في البرلمان حتى العام 1992 وهم ادمون رزق ونديم سالم وفريد سرحال. فيما كان اشتهر النائب السابق جان عزيز، الشهابي الذي لعب دوراً مؤثرا في السياسة وأعطى للسياسة وجهها الجميل ببُعدها الثقافي والسياسي والاخلاقي. ومن ثم لعبت العائلات السياسية دوراً بارزاً كعائلة سرحال وسالم وعازار ورزق.لكن جزين عُرفت ايضاً بنزعة كتائبية، ولا سيما ان ابنها ادمون رزق هو احد رموز حزب «الكتائب» في السبعينات من القرن الماضي وقد عُرف ببلاغته وبثقافته وبعلمه القانوني واطلاعه الواسع، وكان احد اركان اتفاق الطائف. فيما طبعت شخصيات عدة تاريخ جزين القديم والحديث: كعزيز ورزق ونديم سالم وسيمون كرم ( ابن شقيقة جان عزيز)، ويتحدّر منها ايضاً رجل الاعمال المكسيكي كارلوس سليم.في اول انتخابات جرت بعد الحرب اي العام 1992 كان المسيحيون قاطعوا الاستحقاق النيابي بناءً على دعوة من البطريركية المارونية والاحزاب المسيحية. واستجاب مسيحيو جزين للمقاطعة، ولم يقترع فيها سوى 11 في المئة من عدد الناخبين.وفاز عن جزين في تلك الانتخابات 3 نواب انضموا الى اللائحة التي شكلها الرئيس نبيه بري بوصفه احد اركان نظام ما بعد الطائف وهم نديم سالم وسمير عازار وسليمان كنعان، علماً ان انتخابات تلك المرحلة تمت على اساس المحافظة، اي ان نواب جزين المسيحيين فازوا بأصوات غير المسيحيين.انتخابات 1996لم يتغيّر واقع جزين العام 1996، فبقيت ترزح تحت الاحتلال الاسرائيلي من جهة، ومن جهة أخرى تحت واقع اختيار بري لنوابها عبر لائحة واحدة تخوض المعركة الانتخابية في وجه الآخرين فتفوز حتماً بعدما باتت «المحدلة» عرفاً شائعاً.وفي 1996 برز عامل جديد تمثّل في دخول «حزب الله» الى لائحة بري بالتكافل والتضامن. وهذا الواقع أثّر ايضاً على جزين، حيث عاد رئيس البرلمان ليخوض المعركة في وجه خصومه بالنواب الثلاثة اياهم، ففازوا مجدداً.ظلّ سمير عازار الصديق والحليف الدائم لبري. فيما حملت الاعوام اللاحقة خلافاً حاداً بين بري وسالم الذي انضمّ بعدها الى «لقاء قرنة شهوان» وهو التجمّع المسيحي الذي جهر بعدائه للسوريين وحلفائهم في لبنان.هذا الخلاف، ادى في انتخابات العام 2000 الى ان يخوض بري و«حزب الله» الانتخابات بمرشح غير معروف اسمه جورج نجم اضافة الى عازار وانطوان الخوري. وظلّت نسبة المقترعين في جزين هي الادنى في كل اقضية الجنوب، رغم عودة المسيحيين عن المقاطعة، اذ بلغت 38 في المئة مقابل 50 في المئة في صيدا.وفي العام 2005، تبدّلت كل ظروف المعركة الانتخابية، اذ اغتيل الرئيس رفيق الحريري وخرج السوريون من لبنان، لكن بري و«حزب الله» ظلا يشكلان لائحة الجنوب. وأُجريت الانتخابات على اساس قانون العام 2000، ورشح بري مجدداً عازار وبيار سرحال وانطوان الخوري وفاز الثلاثة بالتزكية.وكانت انتخابات العام 2009 هي المفصلية بالنسبة الى جزين. فعشية تلك الانتخابات جال العماد ميشال عون في جزين والجنوب، وعشية الجولة ايضاً اعلن الوزير جبران باسيل ان «التيار الحرّ» يريد استرداد جزين من بري. وأثارت تصريحات باسيل امتعاضاً وشرخاً بين عون بري اللذين لا يجمعهما في الأصل اي قاسم مشترك.وقرر عون ان يخوض معركة «التيار الحر» في غالبية المناطق المسيحية، بعدما خاضها العام 2005 وحصل على اكثرية مسيحية. وكانت جزين بالنسبة الى «الجنرال» معركة اساسية، ولا سيما ان «التيار» ناشط وفاعل في البلدة والقضاء معاً، علماً ان انتخابات 2009 اجريت على اساس قانون 1960 المبني على الاقضية كدوائر انتخابية.وبالرغم من كل المحاولات التي قام بها «حزب الله» لجمع عون وبري، فشلت مساعي تأليف لائحة انتخابية مشتركة. وشكّل عون لائحة ضمّت كلاً من الناشط العوني زياد اسود والمحامي ميشال حلو ورجل الاعمال الكاثوليكي عصام صوايا، وألّف بري لائحة ضمّت كلا من حليفه التقليدي سمير عازار، وكميل سرحال وانطونيو الخوري. وفي حين امتنعت قوى 14 آذار عن الدخول في منافسة انتخابية في جزين، شكّل النائب السابق ادمون رزق لائحة مستقلة حصلت على بعض الدعم من 14 آذار ضمّته مع فوزي الاسمر وعجاج الحداد.كانت المنافسة في جزين حامية، اذ تتداخل الاعتبارات العائلية في اختيار الفائزين، وايضاً الخدمات التي اشتهر بها نوابٌ شغلوا مقاعدهم لسنوات طويلة. وكان سميرعازار احد هؤلاء النواب. لكن العوامل الحزبية فعلت فعلها أكثر، وصبّت أصوات العونيين جميعاً لمصلحة لائحة «التيار الحر» التي فازت بأعضائها الثلاثة، وحصلت على نسبة تعادل 50 في المئة من أصوات الناخبين، فيما تَساوى عازار ورزق في الحصول على عدد أصوات شبه متعادل عند الموارنة.الانتخابات الفرعية عام 2016وبعد وفاة النائب ميشال حلو، طُرحت مسألة إجراء انتخابات نيابية فرعية، اسوة بما حصل في الكورة بعد وفاة النائب «القواتي» فريد حبيب الذي انتُخب بدلا منه النائب الحالي فادي كرم، بتفاهُم شبه ضمني بعدم ترشيح «التيار الحر» اي مرشح لمواجهة كرم. وهذا اوحى للوهلة الاولى بأن تكون الانتخابات في جزين عبارة عن تزكية المرشح الذي يختاره «التيار الحر». والاحتمال الأكبر ان يطرح التيار مرشحه المحتمل اي رجل الأعمال أمل ابو زيد القريب من الوزير جبران باسيل ليكون نائباً عن جزين. علماً ان أرملة النائب الراحل حلو ميشلين المعوشي حلو، سبق ان لمحت الى احتمال ترشحها بدل زوجها، لكن هذا الخيار لا يلاقي اي تجاوب لدى عون او الجزينيين.مشكلة ابو زيد هي مشكلة يعانيها غالبية رجال الاعمال الذين لا ينتمون الى «التيار الحر» ويواجهون خصومة أهل التيار. وهنا في جزين يصبح للنائب زياد اسود وقع وحضور. علماً ان اسود نتيجة علاقته وخصومته لباسيل، يدرك انه يمكن ان يكون نائباً للمرة الأخيرة عن جزين، في ظل رئاسة باسيل للتيار الحرّ، الأمر الذي يجعل من ورقة انتخابات جزين الفرعية ورقة قوية في يده سواء جيّرها لمصلحة ابو زيد او العكس.لكن التزكية تبقى خياراً من ضمن خيارات عدة تتأرجح بين احتمال تأجيل الانتخابات النيابية وعدم إجرائها رغم تخصيص الاعتمادات لها، وهنا يجب انتظار مرسوم دعوة الهيئات الناخبة. ثانياً هناك موقف بري تحديداً واحتمال إقدامه على معركة تحدٍّ مجانية مع عون عبر دعم مرشح محتمل هو النائب السابق سمير عازار او حتى ابنه ابرهيم. علماً ان التصويت الشيعي العام 2009 صبّ بنسبة 38 في المئة لمصلحة لائحة عون و58 في المئة لمصلحة لائحة بري.اما بالنسبة الى المسيحيين، فالمرجح ان تتغاضى «القوات اللبنانية» عن خوض غمار الانتخابات وتقديم اي مرشح، على غرار ما فعل «التيار الحر» في الكورة، ولا سيما في ظل المصالحة التاريخية التي تمت بين الجانبين في يناير الماضي وتُوِّجت بترشيح رئيس «القوات» الدكتور سمير جعجع العماد عون لرئاسة الجمهورية. في حين يبقى موقف حزب الكتائب ملتبساً بين الانكفاء عن الانتخابات او خوض المعركة لاستعادة الدور الكتائبي في جزين، لكن ثمة خشية من ان تتكرر خسارته التي سبق ان مني بها في انتخابات المتن الفرعية العام 2007 حيث خسر الرئيس امين الجميل امام المرشح العوني كميل خوري. لكن اوساطاً كتائبية تؤكد ان الاتجاه هو ان تخوض الكتائب المعركة وعدم ترك «التيار» و«القوات» لينتجا انتخابات تزكية. وتعوّل «الكتائب» على العائلات والوجوه التقليدية لتلعب دوراً في الدفع في اتجاه إجراء الانتخابات فترشح شخصيات لها تاريخها او لعبت عائلاتها دوراً في تاريخ جزين من اجل عدم تمرير الاستحقاق بلا انتخابات.
متفرقات - قضايا
بعد إقرار الاعتمادات المالية لإجراء الانتخابات فيها لملء المقعد الشاغر
«فرعية جزين»... «قلوب صافية» مع جعجع و«تصفية حسابات» بين عون وبري
07:17 ص