إن للمسلم في كل ساعة من عمره وظيفة لربه، عليه أن يقوم بها حسب الاستطاعة، وعلى قدر الطاقة، فاتقوا الله ما استطعتم، ( لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) [البقرة: 286] إنها وظائف ومطلوبات تستغرق الحياة كلها، ( وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ ) [الحجر:99]،( قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ )[الأنعام: 162، 163] إن هذه الوظائف والمرغوبات تستدعي من المسلم الحصيف أن يتلمَّس الأعمال الصالحات، ويتحرَّاها في حقيقتها وأثرها وسعتها وثمارها، والأعمال الصالحات منزلتها في الدين عظيمة، ومرتبتها في الإسلام عالية، فهي قرين الإيمان في كتاب الله، وأثره وثمرته وجزؤه، ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً) [طه: 112]، ( إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـ?تُ ?لْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف: 107]، (مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل: 97] فالإيمان بالله ومعرفته وتوحيده، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل ولزوم السنة، وأكل الحلال، والمداومة والقصد والتوسط، واتباع السيئة الحسنة، والتوبة والاستغفار والبكاء على الخطيئة، كل أولئك علائم ومنارات وضوابط ومتطلبات لتحقيق العمل الصالح، ومن عرف الله ولم يعرف الحق لم ينتفع، ومن عرف الحق ولم يعرف الله لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق ولم يخلص العمل لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق وأخلص العمل ولم يكن على السنة لم ينتفع، وإن تمَّ له ذلك ولم يأكل الحلال ويجتنب الحرام وأكبَّ على الذنوب لم ينتفع، ولا يرجو القبول إلا مؤمن بربه وبآياته، عابدٌ مخلص، وجلٌ مشفق، يستصغر عباداته، ويستقلُّ طاعاته، مدركٌ لجلال الله وعظمته، وعلمه وإحاطته، رقيب له في شعائره ومشاعره، فالعمل الصالح لا بد أن يكون سليمًا من الشرك كبيره وصغيره، دقيقه وجليله، خفيِّه وجليِّه،( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا ) [الكهف: 110]، وفي الحديث الصحيح: ((يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) ولا بد في العمل الصالح أن يكون سليمًا من البدع ومحدثات الأمور، ففي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) وفي لفظ لمسلم: (( ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) وفي الحديث الآخر:(( وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )) فلا بد من لزوم متابعة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يُعبد الله إلا بما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) [آل عمران: 31]، ( فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )[النور: 63]، بالمتابعة يتحصن المسلم من البدع كلها، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، والعمل الصالح كذلك لا بد فيه من الإخلاص، إن من أشد المفسدات، ومانعات القبول، ومبعدات التوفيق عدم الإخلاص والإشراك في النية والمقاصد، وفي الحديث: ((إياكم وشرك السرائر، يقوم رجل فيصلي، فيزين صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر)) رواه ابن خزيمة في صحيحه، ويقترن بالإخلاص تحري الطيبات، فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا، والطيب ما طيَّبه الشرع، لا ما طيَّبه الذوق، والطيب توصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات، ( قُل لاَّ يَسْتَوِى ?لْخَبِيثُ وَ?لطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ?لْخَبِيثِ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ي?أُوْلِى ?لألْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[المائدة: 100].ولابد من تحري الأعمال الصالحة والمداومة عليها، ففي الخبر الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((أدومها وإن قل))، وقد كان عمله عليه الصلاة والسلام ديمَة، يقول الإمام النووي رحمه الله: «بدوام القليل تستمر الطاعة، تستمر بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله، فينمو القليل الدائم حتى يزيد على الكثير المنطقع أضعافًا كثيرة»، ويقول ابن الجوزي رحمه الله: «مداوم الخير ملازم لخدمة مولاه، وليس من لازم الباب في وقت ما كمن لازم يومًا كاملاً ثم انقطع» ويقترن بالمداومة تحري القصد والاعتدال والتوسط، ومراعاة الحقوق والواجبات، والموازنة بين المسؤوليات، فإن لنفسك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقًا، ولزورك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فلا ينبغي للعبد أن يجتهد في جانب ليفرط في جوانب، ففي الحديث الصحيح ((فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)) و في الحديث الآخر ((إن الله لا يمل حتى تملوا، واكلفوا من العمل ما تطيقون)) هذا هو العمل الصالح، وهذه هي مقتضياته ومتطلباته، ومع هذا فإن العبد محل التقصير، ومحط الخطايا، وكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، الموفَّقون للعمل الصالح ذوو القلوب المخلصة، والتوحيد الخالص، وهِمَمٍ جادة، موفون بتكاليف الشرع، بعيدون عن الغفلة والأثرة، يسلكون مسالك الإيثار، يرجون رحمة الله، (وَيَخَـ?فُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا )[الإسراء: 57].*دكتوراه في الفقه المقارن وأصول الفقه