في الحادي والعشرين من شهر أكتوبر العام 2012 نُشر في الجريدة الرسمية الكويتية المرسوم بقانون رقم «19» لسنة 2012، بشأن حماية الوحدة الوطنية ومفاد هذا المرسوم هو «حظر كراهية وازدراء أي فئة من فئات المجتمع أو إثارة الفتنة الطائفية أو القبيلة» . لقد جاء هذا المرسوم بقانون لحماية الوحدة الوطنية وصيانة المجتمع من النعرات والطائفية القبلية، ووأد الفتنة قبل أن تطل برأسها القبيح فتأتي على الأخضر واليابس، وتفت في عضد المجتمع، وتعطل حركة البناء والتطور...وبما أن الكويت تعيش هذه الأيام في أجواء الاحتفال بيومي الاستقلال والتحرير، وجدنا أنه من المناسب الحديث عن «الوحدة الوطنية» بعد أن أصبحت ضرورة من ضروريات المحافظة على مبادئ وقيم المجتمعات المسلمة خاصة في مواجهة التحديات المعاصرة. لكن الحديث سيقتصر على الرؤية التأصيلية الشرعية لمفاهيم «الوحدة الوطنية» انطلاقا من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والأحداث التاريخية والسير، وأقوال وآراء الأئمة الأعلام. وقد تناولت اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية هذا الموضوع نظراً لأهميته في أحد اصدارات سلسلة «تهيئة الأجواء» وهو عبارة بحث رائع بعنوان «التأصيل الشرعي للوحدة الوطنية ـ مصطلحا الانتماء والولاء الوطني أنموذجاً» للدكتور عبدالرزاق حسين أحمد، الاستاذ المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ فرع جيبوتي. وبما أن الوحدة الوطنية ضرورة حياتية لا تستقر الأمور من دونها في كل الأوطان وأن هناك قضياها تختلف معالجتها من النظام الإسلامي اختلافا كاملاً عن النظم الوضعية فقد طرح البحث عدة أسئلة سيحاول الإجابة عنها ومنها:•ما المقصود بالوحدة الوطنية من المنظور الإسلامي ؟ وما أهميتها ؟•هل يوجد تعارض حقيقي بين الانتماء الوطني والانتماء الإسلامي ؟•كيف تناولت النصوص الشرعية مسألتي الانتماء والولاء ؟•ما أهم مقومات الوحدة الوطنية من المنظور الإسلامي ؟•وهل خرج البحث بنتائج وتوصيات ؟هذا ما سنحاول بيانه في السطور التالية... فتابع معنا...قام الباحث بالتمهيد لبحثه بثلاثة مطالب أولها عن: المفهوم اللغوي للوحدة الوطنية، موضحاً أن مصطلح الوحدة الوطنية يتألف من عنصرين: الوحدة وهي تعني تجميع الأشياء المتفرقة، أما الوطنية فهي نسبة إلى الوطن، وهو موطن الإنسان ومحله.أما المطلب الثاني عن لفظ «الوطن» المفهوم والاصطلاح:وهذا الأمر تعددت فيه التعريفات، فمن قائل «الوطنية هي تلك العاطفة القوية التي يحس بها المواطن نحو وطنه العزيز، وتلك الرابطة الروحية المتينة التي تشده إليه».إلى قائل «إن الوطنية قيام الفرد بحقوق وطنه المشروعة في الإسلام».وثالث يرى بأنها: «المشاعر والروابط الفطرية التي تنمو بالاكتساب لتشد الإنسان إلى الوطن الذي استوطنه وتوطن فيه».وخصص المطلب الثالث لبيان المفهوم الاصطلاحي للوحدة الوطنية فقال: لم يكن لمصطلح «الوحدة الوطنية» وجود في الأدبيات الإسلامية، إذ لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ولا في بقية مصادر أهل العلم، وإنما هو مصطلح معاصر له مفهوم يحاكي الفكرة، ومن المتعارف عند أهل العلم أن المصطلحات المجملة بحاجة إلى تحرير، لكي لا تختلط المفاهيم.يلاحظ من التعريفات أنها اتفقت جميعا على أن مفهوم الوحدة الوطنية هي انصهار جميع أبناء الوطن في بوتقة واحدة وكيان واحد بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والفكرية.محبة الوطنلا يمكن تحقيق وحدة وطنية دون أن تكون هناك محبة للوطن لدى الجميع، فالعلاقة بينهما علاقة عضوية كعلاقة الجزء بالكل.والمتأمل في الكتاب والسنة يجد أنهما بينا بيانا لا لبس فيه شرعية محبة الوطن، وأسس توازنها مع الانتماءات الأخرى دون إفراط أو تفريط، وفيما يلي إيراد تلك الأدلة.قبل أن نعرض للأدلة الشرعية لعل من الأجدر أن نذكر هنا دعامة مهمة لتأصيل محبة الوطن،وهو دعامة الفطرة الصحيحة التي سلمت من الشذوذ والانحرافات، فهي أقوى دليل على محبة الوطن.هذه المعاني التي أقرتها الفطرة الصحيحة المستقرة في النفوس نجدها مع الآيات القرآنية التالية، وفي أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ومن تلك الآيات:1) ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) التوبة 24.2) قوله تعالى ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ) البقرة 26.ومن السنة:وردت أحاديث نبوية عديدة في مشروعية محبة الوطن، وفي ما يلي أسوق بعضا منها:1) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته ـ أي أسرع ـ وإن كانت دابة حركها».قال الحافظ بن حجر ـ رحمه الله ـ معلقاً على الحديث: «وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية محبة الوطن والحنين إليه».2) حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة «ما أطيبك من بلد، وما أحبك من بلد، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك».ففي الحديث دلالة واضحة على أن الإنسان لديه ارتباط وثيق بالمكان الذي نشأ وشب فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم تأثر بالبيئة التي عاش فيها ووطنه الأصلي وهو مكة، وحن إليها.الانتماء الوطنيالانتماء لغة: الانتساب، يقال: انتمى فلان إلى فلان إذا ارتفع إليه في النسب.فانتماء الولد إلى أبيه انتسابه إليه، ومن معانيه أيضا: الزيادة والكثرة، فالشجر ينمو وكذلك الإنسان.ويمكن تعريف الانتماء اصطلاحاً بأنه الانتساب الحقيقي إلى أمر معين فكراً وتجسده الجوارح عملاً.فالإنسان ينتمي إلى دينه من خلال الالتزام بتعاليمه، والثابت على منهجه.وأما الانتماء الوطني فهو الانتساب الحقيقي من الفرد لوطنه فكرا والذي تجسده الجوارح عملاً.? العلاقة بين الانتماء الوطني والانتماء الإسلامي:من المغالطات التي وقع فيها أعداء الإسلام وغلاة الوطنية إيهامهم للمجتمعات المسلمة بوجود تعارض حقيقي بين الانتماء الوطني والانتماء الإسلامي، وأن التمسك بالدين يعطل بعض مصالح الوطن، فعارضوا تطبيق شريعة الإسلام وهاجموا الرابطة الدينية واعتبروها خطراً يهدد الوحدة الوطنية، ويضعف التعاطف والتعاون بين أبناء الوطن.ورفع هؤلاء شعارات لترويج بضاعتهم أبرزها قولهم: الدين لله والوطن للجميع وهي كلمة حق يراد بها باطل.وكما أن الترابط بين أفراد الأسرة يقوي ترابط المجتمع فكذلك الترابط الوطني يقوي ترابط الأمة الإسلامية.فالعلاقة بين الانتماء الوطني والانتماء الإسلامي علاقة تلازم وترابط ووئام، وليست علاقة تنافر وتصادم وتضاد، لأن من ضروريات قيام هذا الدين أنه لا يقوم إلا على أرض ووطن، وهنا تأتي ضرورة الوطن من أجل إقامة الدين كما قال الله عز وجل في محكم تنزيله ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) الحج 41.وهذا الانتماء انتماء عقدي يكون بين المسلمين في كل مكان، مهما اختلفت بلدانهم وجنسياتهم ولغاتهم وألوانهم، وهو المعنى بقوله تعالى ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ) الحجرات 10.وجاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وكقوله صلى الله عليه وسلم «المسلم أخو المسلم...».? الانتماء السياسي ( المواطنة ):ومعناها في المنظور الإسلامي صلة قائمة بين دار الإسلام ( الوطن ) وبين من يقيمون على هذا الوطن أو هذه الدار من المسلمين وغيرهم.فغير المسلمين نتيجة انتمائهم السياسي للدولة الإسلامية يتمتعون بالحقوق، ويلتزمون بالواجبات التي يفرضها عليهم هذا الانتماء، لأن الإسلام دين ودولة، يراعي جوانب أخرى غير الجانب الديني، كالجانب القانوني والجانب الأخلاقي، والجانب الثقافي، فمن خلال تلك الجوانب ينتمي غير المسلم للدولة الإسلامية.ومما ينبغي أن نشير إليه هنا أن ثمة مقصدين من مقاصد الشريعة يحققهما الانتماء السياسي (المواطنة ).المقصد الأول: مقصد إنساني يسعى إليه كل البشر، وهو الأمن والاستقرار، وديننا حرص كل الحرص على تأكيد هذا المقصد وتقويته، إلا لا تنمية، ولا إقامة للحق والعدل، ولا إصلاح في الوطن، ولا تعمير ولا بناء... من غير أمن واستقرار.المقصد الثاني: مقصد حفظ النسيج الاجتماعي الوطني، إذ الاختلاف والتعدد والتنوع في الأفكار والآراء والأديان سنة ربانية كما قال الله تعالى ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) هود: 118 ـ 119.? والانتماء السياسي للدولة الإسلامية يتم بإحدى وسيلتين:الوسيلة الأولى: الهجرة إلى الدولة الإسلاميةفالمسلم الذي هاجر إلى الدولة الإسلامية، وخضع لنظامها، يحق له ذلك الانتماء، أما من أسلم ولم يهاجر فليس بينه وبين الدولة الإسلامية انتماء سياسي، ومن النصوص الشرعية الدالة على ذلك:قوله تعالى ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلى على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ) الأنفال 72.الوسيلة الثانية: عقد الذمة لغير المسلمالمطلع على كتب الفقه الإسلامي وتراثه يجد أن مصطلح «الذمة» مصطلح حسن، لا كما يظنه بعض الناس من أنه مذموم، فالمصطلح يعني أنهم أهل العهد والأمان.فغير المسلم ينتمي للدولة الإسلامية من خلال هذا العقد، فله من الحقوق ما للمسلم، وعليه من الواجبات ما على المسلم.الولاء الوطنيالولاء لغة من الولي، ومعناه: القرب والدنو، يقال: بين هؤلاء ولاء أي: قرابة، والولي هو المحب والصديق والنصير.من خلال ما سبق يتضح أن مادة «الولاء» تعني لغة: المحبة والنصرة، ومنه قوله تعالى: ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) فصلت 34.ويمكن تعريف الولاء بالمفهوم الاصطلاحي العام بأنه مشاعر الفرد وأحاسيسه الإيجابية بالمحبة والنصرة تجاه موضوع معين.وهكذا يظهر التقارب وعدم الفرق بين المعنيين اللغوي والشرعي.وأما الولاء الوطني بمفهومه الخاص فهو «رابطة اجتماعية وقانونية وأخلاقية، ومطلب اجتماعي وقانوني وأخلاقي كواجب وعقد ووعد، وهو الذي يجبر الشخص إلى اتباع أو تجنب تصرف معين».وقد يسأل البعض فيقول: ما حدود العلاقة بين مفهوم الانتماء الوطني ومفهوم الولاء الوطني ؟ وهل ثمة فرق بين المصطلحين ؟للإجابة عن هذا السؤال نقول: إن بين المفهومين فرقا واضحا، فالولاء يتضمن الانتماء، إذ الفرد لا يمكن أن يحب وطنه إلا إذا انتمى إليه، أما الانتماء فليس بالضرورة أن يتضمن الولاء، لأن الفرد قد ينتمي إلى وطن، ولكن لا يمنحه كل الحب والنصرة والعطاء.والمتتبع للنصوص الشرعية يجد أن كل أنواع الولاءات تنبثق وتتفرع من الولاء الأول للمسلم، وهو الولاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو مصدر الولاءات، قال الله عز وجل في محكم تنزيله ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) المائدة 55 ـ 56.ومن الأحاديث النبوية التي جاءت في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم:«ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».وللولاء الوطني في المنظور الإسلامي مظاهر يبرز من خلالها، وهي على النحو التالي:1: تحكيم شريعة الله عز وجل في البلد المسلم.2: الدفاع عن أرض الوطن وترابه.3: التعاون والتكافل بين أبناء الوطن.4: احترام خصوصيات أبناء الوطن من دين وعادات.? مقومات الوحدة الوطنية في ضوء الشريعة الإسلاميةأولاً: الدين وهو يشكل أبرز الجوانب التي تتكون منها الشخصية الانسانية، قال الله تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) الذاريات 56.ثانيا: اللغة: ولها دورها في تحقيق الوحدة الوطنية بين أفراد الوطن فهي وسيلة التفاهم وتبادل الأفكار والتقارب بينهم.ثالثا: العادات والتقاليد الوطنية التي تشكل مقوما مهما في تكوين الوحدة الوطنية.رابعاً: التمسك بمحاسن الأخلاق التي حددتها الشريعة الإسلامية.خامساً: الابتعاد عن الأخلاق الذميمة المهينة في الشريعة الإسلامية.سادساً: المحافظة والحرص على أمن الوطن.سابعاً: طاعة ولاة الأمور ومعرفة حقوقهم المحفوظة لهم شرعاً.ثامناً: نشر ثقافة الحوار بين أبناء الوطن.تاسعاً: توفير الحرية الإيجابية المنضبطة والعدل والمساواة بين المواطنين.
متفرقات - إسلاميات
أصّلتها شرعياً «اللجنة الاستشارية العليا» في أحد إصداراتها وفق نصوص القرآن والسنة وأقوال أهل العلم
الوحدة الوطنية... ضرورة للمحافظة على مبادئ وقيم المجتمع المسلم
«واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا...»
01:00 م