| القاهرة - من نهى الملواني |
قبل عقود قليلة، كان الفن بحرا بلا شطآن، أو سفينة بلا ربان... وكان فطاحل النجوم، الذين ملأوا الدنيا فنا وإبداعا، يموتون، كما خرجوا إلى الحياة... أول مرة... فكم كان مأسويا ومفجعا ومؤلما... المشهد الأخير في حياة عدد محدد من الفنانين المصريين والعرب، الذين أثروا الوجدان العربي، وأبدعوا على خشبة المسرح، وتألقوا في السينما المصرية... حيث فارقوا معدمين فقراء، لا يملك ذووهم تكاليف تشييع جثامينهم إلى المثوى الأخير.
فمن يصدق أن كوميديانا مبدع... مثل نجيب الريحاني أو إسماعيل ياسين أو عبدالسلام النابلسي أو حسن فايق أو زينات صدقي... يفارق، وقد أدارت الدنيا ظهرها لهم تماما، وخاصمتهم، وأعلنت عليهم الحرب، وشحذ الفقر والمرض أسلحته، للقضاء على البقية الباقية منهم؟
تلك هي الحقيقة المرة... التي سنقرأها في سطور تلك الحلقات، التي تعرض جوانب غير معروفة في حياة 16 فنانا ومبدعا، عاشوا للفن ومن أجل الفن، وأخلصوا له، ولكنهم لم يحصدوا في نهاية المطاف سوى... الحصاد المر.
ربما يتحملون بعضا من المسؤولية فيما آلت إليه مصائرهم، فتوهموا أن الدنيا عندما تقبل... لا تدبر، وعندما تضحك لا تبكي، أخطأوا لأنهم لم يأمنوا غدر الأيام... وربما هذا ما دفع الأجيال اللاحقة لهم من الفنانين إلى أن يعيدوا حساباتهم، فيبالغون في أجورهم، ويتعاملون مع الفن بمنطق تجاري بحت، وليس كما كان يتعامل معه إسماعيل ياسين وعلي الكسار والنابلسي وغيرهم، وهو ما دفعهم أيضا «الأجيال الجديدة» إلى تأمين أنفسهم بمشروعات تجارية، منفصلة عن الفن... ذلك الغدّار غير مأمون الجانب.
أوراق مجهولة وأسرار ننشرها لأول مرة... نعرضها حصريا على صفحات «الراي» في تلك الحلقات... التي تبدو أحداثها ميلودرامية سوداء، ولكنها من طرف خفي... تبرز لنا جوانب مضيئة في حياة أبطالها... الذين قضوا حياتهم من أجل إمتاع الناس، وإحساسهم بالبهجة والسعادة، جيلا بعد جيل.
إنها الحياة... لا تترك للإنسان مفرا، ومن صعود إلى صعود... حتى يصل إلى النقطة التي بدأ منها، فتسلبه الدنيا بلا قسوة أو رحمة كل شيء... فما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.
وفي النهاية... لا نجد إلا أن نستنزل من الله الرحمة على هؤلاء الفنانين الحقيقيين المبدعين... الذين أناروا سماء الفن العربي، بمواهبهم الفذة والمتوهجة... رحم الله الريحاني وإسماعيل ياسين وجورج أبيض وعلي الكسار... وغيرهم... بقدر ما أمتعونا... ولايزالون... وبقدر ما عانوا وقاسوا وتألموا في أيامهم الأخيرة.


يعتبر الفنان الراحل أنور وجدي... ظاهرة فنية معقدة، فمن تحت الصفر خرج إلى الحياة، واقتحم مجال الفن بإرادة صلبة، حتى وصل إلى القمة، ولكن سرعان... ما عاد إلى الصفر سريعا، بسبب المرض... الذي لم يدعه يهنأ بثمار النجاح، والنجومية والثراء، فأطفأ بهجته وموهبته ولم يكن قد أتم عامه الرابع والأربعين.
حياته سلسلة تناقضات... تشرد وفقر وجوع... وأيضا شهرة وثروة ومرض، دخل شارع الفن المشهور بعماد الدين في قلب القاهرة، وهو لا يملك من حطام الدنيا شيئا... صعلوك مثل كثيرين يعيشون ويموتون على هامش الزمن، كان مجرد شاب مغامر... حاول دخول المسرح من باب الكومبارس.
بداية أنور وجدي... لم تكن تنبئ أبدا بقدوم نجم سينمائي لا يشق له غبار... فقد كان عاملا يحمل الديكورات... تحمل الإهانة والسخرية من أجل حلمه الأكبر... وليصبح الصعلوك... أول فتى لشاشة السينما... تحول عامل الديكور سريعا إلى مؤسسة فنية تجمع مواهب عدة داخل شخص... فكان منتجا وممثلا ومخرجا... ألوان مختلفة من السينما... كوميدية... رومانسية... أفلام الحركة والاستعراضية والغنائية.
عاش أكثر من نصف عمره يتمنى إيجاد لقمة عيش... وأمضى النصف الآخر في إنتاج وتمثيل الأفلام... إلى أن مرض وضاع منه كل شيء... بدأ من الصفر وكافح من أجل بلوغ القمة... لكن القدر لم يمهله للاستمتاع بثروته الطائلة... وأنهى حياته بالصفر أيضا.
اسمه الحقيقي «محمد أنور وجدي» من مواليد 11 أكتوبر 1904، من أسرة متوسطة الحال... كانت منذ منتصف القرن التاسع تعمل في تجارة الأقمشة في دمشق... وظهر الشاب الوسيم الطموح ودخل مجال الفن، حاملا على كتفيه طموحا كبيرا.
مفتاح شخصيته الموهبة والطموح والذكاء... ثقته بنفسه وفنه كانت بلا حدود... عندما كان في أولى خطواته السينمائية يلعب الأدوار الصغيرة قال لليلى مراد وكان في أوج شهرتها: « سوف تكون أمجادك الفنية من خلالي»... كانت ليلى تضحك على دعابة الناشئ الصعلوك.
سقف طموحاته لم يكن له حدود، لا يسمح لأي شخص مهما كان بتهديد مشروع نجاحه وصعوده.
أما علاقته بليلى مراد... فتفسر جوانب كبيرة في شخصيته، كانت بالنسبة له مشروعا فنيا كبيرا، قال ذات مرة: « لا أستطيع الحياة مع ليلى، كما لا أستطيع الحياة من دونها».
تزوجها أثناء تصوير فيلم «ليلى بنت الفقراء»... كونا ثنائيا فنيا ناجحا، وعندما اقتربت المسافة بين الزوجة والفنانة لدرجة تهدد طموحه ومشروعه انفصل عنها...
ذكاؤه فتح أمامه عقول وقلوب الكبار في عصره ودفعه أيضا إلى الوصول لأحلام الصبيان والفتيات، فجسد رؤيتهم لفتى الشاشة من خلال أدوار الشاب القوي الصبور والمكافح، كما كانت خفة ظله وموهبته جواز مروره لحلمه الكبير، حيوية ونشاط دائم كانت تدفعه للعمل ساعات طويلة.
كان رحمه الله فنانا شاملا يفهم ويجيد جميع عناصر صناعة العمل الفني... الديكور والموسيقى والتمثيل والإخراج والتأليف... يملك قدرة مذهلة على استثمار كل ما يملك لصناعة فنه وثروته.
انتزع لقب فتى الشاشة الأول ومصر في العالم العربي... ظل وحده متربعا فوق قمة لم يصل إليها أحد، سواء من نجوم جيله، أو عشرات النجوم، الذين جسدوا أدوار البطولة السينمائية... فظهرت عشرات الأسماء إلى جواره أمثال: عماد حمدي، وكمال الشناوي، وأحمد مظهر... إلا أنه احتل مكانة وقمة مختلفة، ليس فقط لأنه ظل يحتل موقع فتى الشاشة الأول للسينما المصرية طوال 20 عاما، في تاريخ صناعة السينما نجح نجوم آخرون في تحقيق هذا الإنجاز،
وربما تجاوزوه من حيث عدد السنوات، لكن يظل اسم ومكانة أنور وجدي الفائز الأول... عندما يوضع في مقارنة مع نجوم السينما المعاصرين له، واللاحقين عليه حتى الآن.
موهبة ثرية
معيار التفوق يعود لأسباب كثيرة، منها حضوره الفني وموهبته ومساحة تألقه داخل كل كادر سينمائي يشارك فيه، إلى جانب تعدد وتنوع قدراته الفنية والإبداعية.
بالإضافة إلى التمثيل كتب السيناريو وأخرج وأنتج وأعاد اكتشاف نجوم كبار، فنان شامل لم يظهر منافس له منذ بدء صناعة السينما في مصر وحتى الآن، ومنتج ينفق بسخاء على أفلامه، عبقري في انتقاء الأفكار، مدهش في قدرته على التواصل مع ذوق الجمهور والتعبير عنه من دون إسفاف أو ابتذال.
حياته بائسة عاشها في المسرح... دخل من باب الكومبارس الذي يمر من خلاله الطلاب الفاشلون والهواة من صغار الموظفين، ولكن كان أمامه.
هدف واحد يسعى إلى تحقيقه... تمثيل أي دور... كان يشتهي ساندويتش الفول والطعمية ولا يملك ثمنه.
تذكرة ترام عودته لمنزله كانت كلفتها مقدارها 6 مليمات... عجز عن توفيرها في أغلب الليالي، وبعد أن يعجز عن اقتراض هذه المليمات من زملائه الكومبارس، يغلق أزرار جاكتته، ويقف بأدب أمام غرفة «أحمد علام وحسين رياض» يطلب منهما اقتراض ثمن تذكرة العودة بالترام إلى منزله.
طردته أسرته من البيت بسبب تعلقه بالتمثيل، فلم يجد أمامه سوى المبيت في كواليس المسرح بين الأخشاب والديكورات وأكوام الملابس والمخلفات... كان مجرد عامل إكسسوار، المهنة الوحيدة التي أتاحت له دخول مسرح رمسيس من أبوابه الخلفية، عندما ابتسم له القدر وأصبح كومبارس اقتحم بذكائه وخفة ظله قلوب مخرجي ونجوم الفرقة، ومنحه يوسف وهبي أول فرصة، وهي دور حارس صامت يرتدي الملابس الرومانية في مسرحية «يوليوس قيصر»، يقف طوال العرض أمام الجمهور من دون أن ينطق كلمة واحدة.
في العام 1935... انضم للفرقة القومية للمسرح، أول فرقة أقامتها الحكومة المصرية لإنقاذ الفنانين من البطالة بعد الحرب العالمية الأولى.
كان يتقاضى مرتبا شهريا ثابتا 7 جنيهات، ولكن كان كفيلا بتلبية حاجاته الأساسية... والانتقال من خانة الجائعين والمشردين إلى المستورين.
وعندما تزايد نشاطه السينمائي... حاول التوفيق بين العملين ثم اضطر عندما وقف العمل اليومي في المسرح أمام أحلامه السينمائية، وحينها تسللت الدموع من عينيه، فهل كانت دموع حزن أم سعادة ببدء خطوة جديدة على طريق أحلامه، أم أنه تذكر في هذه اللحظة سنوات الشقاء والعذاب والتشرد؟.
ربما كانت كل هذه الأسباب وراء دموعه وفي كل الأحوال... كانت هذه اللحظة فارقة في علاقته بالمسرح وبداية انطلاقه للقمة.
أول شهر عسل قضاة مع عروسه إلهام حسين... في شقة فقيرة في حيّ غمرة بالقاهرة، كان وقتها ممثلا في الفرقة القومية بـ 7 جنيهات شهريا، وعروسه تعمل في محل أزياء، وفي أغسطس 1954 سافر مع عروسه الثالثة ليلى فوزي... في آخر شهر عسل على شواطئ أوروبا وفي أضخم فنادقها.
وبعد أقل من سبعة أشهر على زيجته الثالثة تدهورت صحته بسرعة.
علاقته بليلى مراد
أما زوجته الثانية ليلى مراد... فقد قضى معها شهر العسل في شقته بالدور الأول بعمارة الإيموبيليا... كانت الشقة الوحيدة الملحق بها «روف جاردن». وإيجارها الشهري 14 جنيها، وشهدت هذه الشقة 3 أشهر عسل بين ليلى وأنور، بعد كل انفصال بينهما يتفقان على عودة حياتهما الزوجية وشهر عسل جديد، انفصالهما وارتباطهما كان أحد مظاهر العلاقة الفنية والإنسانية المعقدة التي بدأت بمشروع فني كبير، أصبح من المستحيل استمراره في ظل حياة زوجية مشتركة بينهما.
زواجه من ليلى مراد لم يكن مجرد ارتباط عاطفي، لكنه محطة مهمة في مشروعه الفني، ليلى مراد بشهرتها الكبيرة ونجوميتها كانت إحدى الضمانات المهمة لنجاح شركة الإنتاج... أهم ثمرة أسفر عنها هذا الزواج.
ليلى مراد... ساعدته على النجاح وأنور وجدي أعاد اكتشافها فنيا من خلال وعيه وموهبته في اختيار الأفكار، والإنفاق بسخاء على الإنتاج، لم يتعامل أنور وجدي مع السينما كوسيلة للتجارة والربح، بينما كان الفن في المرتبة الأولى... ديكورات مبهرة وراقصون واستعراضات ونجوم، كل ما يحتاجه الفيلم من أموال كان يدفعها من دون تردد.
بدايته السينمائية
قدمه يوسف وهبي لأول مرة في السينما أوائل الثلاثينات في دور صغير في فيلم الدفاع مقابل 15 جنيها، ثم بدأ يطرق أبواب الشهرة... عندما ظهر في فيلم «انتصار الشباب» مع أسمهان وفريد الأطرش، وظل يؤدي دور الشاب الأرستقراطي إلى أن وقف أمام ليلى مراد، في فيلم «ليلى بنت الفقراء»، كلاهما استفاد من الآخر فنيا، ولكن بدرجات متفاوتة، ليلى... تربعت على قمة النجومية منذ ظهورها مع عبد الوهاب، وكانت المسافة بينهما شاسعة، نجمة وكومبارس بكل ما يحمل الفارق من توازنات وحسابات تجعل تقاربهما شبه مستحيل.
لعب دورا صغيرا أمام ليلى مراد... وتحول في الفيلم التالي إلى نجم يقاسمها البطولة، وصل أجره قبل الحرب العالمية الأولى إلى 50 جنيها في الفيلم وقفز بعد الحرب إلى ألف جنيه.
وأصبح في العام 1946 6 آلاف جنيه، في العام السابق 1945 شارك في 14 فيلما خلال موسم واحد.
يصارع الزمن
كان يبدو كمن يسابق الزمن، انطلقت أحلامه وطموحاته من دون حدود، تنوعت أدواره وشخصياته في أعماله المهمة... «أمير الانتقام وياسمين ودهب وريا وسكينة وأربع بنات وضابط»، كان وجود اسمه على أفيش فيلم يضمن نجاحه.
موقف محترم
اتفق مع نجيب الريحاني... على بطولة فيلم «غزل البنات» وآخر أفلام الريحاني مقابل ستة آلاف جنيه... بعد التصوير... قال الريحاني له إنه يستحق 7 آلاف جنيه، فأخرج أنور وجدي دفتر الشيكات من جيبه، ومنحه شيكا بالألف جنيه.
أنتج للسينما 19 فيلما، منها أفلام ليلى... «حبيب الروح وغزل البنات وقلبي دليلي» وشاركته بطولة 11 فيلما.
قدم للسينما نحو 78 فيلما أولها «الدفاع» وآخرها فيلم « جنون الحب» عام 1955 قبل فترة من رحيله... من مفارقات القدر أن تشهد دور العرض في العام السابق على الرحيل 12 فيلما من بطولته.
نهاية حزينة
في أحد مستشفيات مدينة « استوكهولم » بالسويد كانت النهاية، تدهورت صحته، فقد بصره، دخل في غيبوبة ثم لفظ أنفاسه وبجواره زوجته ليلى فوزي، في ساعاته الأخيرة كان في حالة صفاء وهدوء وعطف وابتسامة للمحيطين به.
رحلة علاجه الأخيرة كانت سريعة وخاطفة... بدأت من القاهرة لم يخبره الأطباء بحقيقة مرضه في البداية، قالوا إنه في حاجة إلى كلية جديدة وعانى أيضا من آلام حادة في الكبد، دخل مستشفى دار الشفاء بالقاهرة، ثم تقرر سفره لرحلته الأخيرة، ولفظ أنفاسه ليلة 24 مايو 1955.
توقفت محطة عمره عند 44 عاما فقط انتهت كل ما امتلكه من ثروة ضاعت جميعها على مرضه... وعلى رحلة علاجه... حيث عاش أكثر من نصف حياته يسعى إلى توفير قوت يومه، كان يتفاخر أن معدته تهضم الزلط، لم يكن يدري أن هذه المعدة سوف تكون أحد مصادر البلاء والألم.
المولد والنشأة
ولد أنور وجدي في منطقة المدبح بحي الظاهر في القاهرة، والده من أصل سوري، كان يعمل سمسارا، ثم استأجر متجرا للبقالة، لم يكمل الفتى تعليمه، هوسه بالفن ونجوم الشاشة سيطر على حواسه... منذ طفولته حاول الهرب فوق سطح سفينة والسفر لهوليود لمقابلة تشارلي شابلن وقبل المغادرة اكتشفوا وجوده وتم تسليمه لأسرته.
لم ييأس وحاول تكرار المحاولة من ميناء بورسعيد «220 كيلو مترا شمال شرقي القاهرة» ، وفشلت أسرته في السيطرة عليه، طردوه، تحمل الجوع والتشرد، تقاسم لفترات طويلة الحياة داخل غرفة فوق السطوح مع عبد السلام النابلسي، لا يعرف كلاهما تدبير قوت يومه.
قصته مثيرة... فقر وجوع وتشرد ولعب بالفلوس وثروة طائلة، سئل في قمة مجده: لماذا لا تمثل قصة حياتك... قال: عندما يتقدم بي العمر سوف أكتبها ولن أمثلها وأحلم بإخراجها.