حين لم يعد النفط يثير حروبا عسكرية، دخل في حرب أسعار طاحنة بين كبار المنتجين أتخمت السوق بالمعروض، وحوّلت الفائض في ميزانيات الدول المنتجة الى عجز، وقد تأتي، إذا استمرت، على احتياطاتها النقدية وأصول صناديقها السيادية التي تجمعت في أيام البحبوحة، لأن الدول النفطية ولا سيما الخليجية منها، تعتمد بشكل كبير في عائدات حكوماتها على النفط، بنسب قد تصل إلى 95 في المئة كما في حالة الكويت.محير نزول النفط بهذه السرعة وإلى هذا الحد. هل هو بفعل فاعل، أم نتيجة لعوامل السوق؟ما لا شك فيه أن اكتفاء أميركا الذاتي نفطيا، وخروجها من نادي الزبائن الكبار، بل ودخولها نادي المصدّرين بعد رفع الحظر عن التصدير أخيرا، هو العامل الأول في الضغط على الأسعار، وهو الدافع الأهم لهذه الحرب الشرسة التي تتناتش فيها الدول المنتجة الزبائن، كما يتناتش السمك قطعة خبز ترمى في الماء. إذ إن حرب الأسعار هذه تزيدها ضراوة «حرب الخصومات» التي تفسّر اتساع الفارق بين أسعار النفط المرجعية العالمية كبرنت ووسيط غرب تكساس، وبين النفوط الأخرى كالكويتي الذي تدنى سعره إلى ما يزيد على 9 دولارات عن الأسعار العالمية.هناك تبادل للاتهامات بين المنتجين من داخل «أوبك» وخارجها، وداخل المنظمة نفسها، حول المسؤولية عن هذه الحرب، وهناك تلميحات تقحم السياسة في القضية، من نوع أن السعودية ودول الخليج العربية الأخرى، تتعمّد خفض الأسعار، للضغط سياسيا على روسيا وإيران لدفعهما إلى تقديم تنازلات في أزمات سياسية كأزمتي اليمن وسورية.لكن مثل هذه الاتهامات تصطدم بواقع ان دول الخليج إذا فعلت ذلك، فهي تؤذي نفسها قبل إيذاء الآخرين، فضلا عن أنه ليس مضمونا أن تتمكّن بهذه الطريقة من تغيير مواقف هاتين الدولتين. فإيران مثلا لو كانت تغيّر مواقفها تحت هذا النوع من الضغوط، لكانت فعلت ذلك منذ زمن بعيد وأراحت نفسها من العقوبات. أما روسيا فدولة عظمى، ومن يراقب قراراتها المندفعة في العقوبات على تركيا التي يخسر منها الاقتصاد الروسي كثيراً، غداة اسقاط الطائرة الروسية قرب الحدود السورية، يدرك أنها لا تشتري وتبيع بهذه الطريقة، ولا سيما في زمن بوتين.على ان النفط بالنسبة لدول الخليج، ليس سلعة استراتيجية حيوية فحسب، بل قضية وجود، ومن الطبيعي أن تدافع عنها بكل ما أوتيت من قوة. والنفط يمر حاليا بتحولات استراتيجية ضخمة يمكن أن تؤثر على مستقبله لوقت طويل، وهي تستدعي من دول الخليج أن تكون لها كلمتها في هذا الخصوص.فإلى جانب عودة منتجين تقليديين مثل العراق وأخيرا إيران إلى السوق بكل ثقلهم، أدخلت الطفرة النفطية التي سبقت الأزمة الاقتصادية في العام 2008، نفوطا جديدة منها النفط الصخري الذي قلب المعادلة في الولايات المتحدة. كما أدى التطور التكنولوجي إلى تسهيل استخراج النفط والغاز أينما كان. ودفع هذا التطور، مع تصاعد المخاوف البيئية، الى ابتكار نماذج جديدة من الآليات التي تعمل بالطاقة، أقل استهلاكا للوقود.هذا يعني أن إعادة التوازن إلى السوق، من حيث الانتاج ومن ثم السعر، لم تعد ممكنة إلا بحرب أسعار، أي بالمضاربات، مثلما هو القانون في أي سوق، حيث يضرب التجار الكبار الأسعار لإخراج الصغار من السوق، ثم يعودون بعد ذلك إلى التحكم بالأسعار. وفي حالة النفط، يسعى المنتجون الكبار لإخراج منتجي الكلفة العالية من السوق، ثم بعد ان يتوازن الانتاج مع الطلب، تعود الأسعار إلى ما كانت عليه.لكن هذا لا يعني بالضرورة ان دول الخليج هي من بدأت حرب الأسعار، إذ لطالما اعتمدت «أوبك» سياسة توازن السوق بخفض أو رفع الانتاج كلما اقتضى الأمر ذلك، في حين لم توافق روسيا مثلا، ولا مرة، على المشاركة في هذا الجهد من خارج المنظمة، وكانت ترفض أي خفض لانتاجها، بحجج من بينها انها اذا قامت بوقف الانتاج في آبار، فلن يكون سهلا استئنافه بسبب برودة الطقس.نتائج هذه الحرب ليست مضمونة ومرتبطة بالوقت والقدرة على التحمّل. باعتبار أن الأطراف الأخرى لديها أسلحتها. وحتى المنتجون ذوو الكلفة العالية لن يخرجوا من السوق بسهولة، فهم ضخّوا استثمارات، وإذا كانت الأسعار الحالية لا تفي بتلك الاستثمارات، فإنها تعيد جزءا منها على الأقل بدل خسارتها كلها، كما قد يراهنون على أن يحمل المستقبل القريب تطورات تؤدي إلى تعديلها.هل تنطوي هذه الحرب على مغامرة؟ بكل تأكيد... ولكنها الحرب.