قد يبدو أن الهجوم على السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد، كان «خطأ» مكلفا دفعت طهران ثمنا كبيرا له على صعيد صورتها في العالمين العربي والإسلامي وعلاقاتها مع دولهما.. لكنه في الواقع ليس كذلك.فالتبرير الإيراني للهجوم على البعثتين بأنه من فعل مجموعة من الغوغاء، أي أنه «خطأ»، لم يقنع الكثيرين، لأنه حتى لو كان صحيحا، تبقى حماية البعثتين مسؤولية السلطات الإيرانية، وهي قادرة. ولكن في كل الأحوال، ليس هكذا تجري الأمور في إيران.الأرجح ان الهجوم لا يعبر عن رأي كل السلطة في إيران، بخلاف رد الفعل الإيراني الموحد ضد قيام السعودية بإعدام الشيخ نمر النمر. بل أنه يزعج الرئيس حسن روحاني الذي يسعى لتغيير هذه الصورة عن بلاده على عتبة بدء تطبيق الاتفاق النووي ورفع العقوبات عنها، لا سيما عندما يتم إدراج الأمر ضمن سياق «عادة» إيرانية بالهجوم على السفارات، والتي سبق أن طاولت لأسباب مختلفة سفارات الولايات المتحدة في 1979 والكويت في 1987 والسعودية في 1988 والدنمارك في 2006 وبريطانيا في 2011.ولكن الهجوم بكل تأكيد يعبّر عن جناح قوي في هذه السلطة يستطيع إحداث هذا النوع من الاختراقات من خلال تحريك أنصاره.المنطق يقود إلى السؤال: هل يمكن للذي خاض سنوات من المفاوضات النووية مع أعتى القوى الغربية، بكل ما تتطلبه من صبر وحنكة وشدّ ورخي، وتهديد في لحظة معينة بالانسحاب من الطاولة ونسف كل شيء، ثم العودة وإبرام التسوية الممكنة، ان يرتكب خطأ مثل اقتحام سفارة؟ المنطق نفسه يجب أن يقود إلى جواب بأن هذا غير ذاك.بهذا المعنى يصبح الهجوم على السفارة تعبيرا عن انقسام إيراني يزداد حدة، على عتبة التغيير الكبير الذي ستشهده إيران، وكل الشرق الأوسط، من الآن فصاعدا مع بدء تطبيق الاتفاق النووي ورفع العقوبات. هو ليس بالضبط صراعا بين الدولة والثورة، ولكن بين الدولة التي تسعى للعودة إلى مجتمع الدول، وبين من لا يريدون التغيير للحفاظ على الوضع القائم الذي يستفيدون منه.استخدام الهجوم على السفارة بالذات، أراد منه الساعون للحفاظ على الوضع القائم التسلح بـ «شرعية الثورة» نظرا لما يرمز إليه الهجوم على السفارة الأميركية بالتحديد بعد ثورة الإمام الخميني، من دون الالتفات إلى الفارق الكبير بين دولة قيد التأسيس في زمن الثورة، وبين دولة ترسخت مؤسساتها التي يفترض ان تكون تصرفاتها محكومة بها، وعبرها بما هو متفق عليه على مستوى العالم.لكن الإجراءات الإيرانية بعد الحادثة، التي شملت اعتقالات لمتورطين وإقالات لمسؤولين، لا يمكن اعتبارها فقط مؤشرا على مسعى إيراني لاحتواء تداعيات «خطأ»، بل هي مؤشر على أن أنصار الانخراط في مجتمع الدول أصبحوا أقوى بكثير داخل المؤسسات الإيرانية.الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط سيستمر، بل سيتعاظم، ولا سيما بين الدول الكبيرة الحجم في الإقليم، لأن إيران العائدة إلى مجتمع الدول، أقوى من إيران التي كانت معزولة ومحاصرة بالعقوبات، ولأن الفراغ السياسي والأمني في الشرق الأوسط ككل، يغري القوى الكبيرة بتوسيع نفوذها، وفي الوقت نفسه يخيفها من أن تصبح معرضة للأخطار إذا لم تتحرك إزاءه.الفارق هو إيراني داخلي أكثر منه خارجيا، وهو أنه للمرة الأولى يتقدّم من يطلق عليهم الإصلاحيون، على من يطلق عليهم المتشددون بهذا الوضوح.ألم تسمعوا الشيخ هاشمي رفسنجاني يتحدث علانية عن تشكيل لجنة لاختيار مرشد جديد، ثم يترشح هو نفسه، وحليفه الرئيس روحاني لانتخابات ستجري قريبا لاختيار الأعضاء الـ 82 في مجلس الخبراء الذي يتجدد كل عشر سنوات والمنوط به انتخاب المرشد؟المؤشرات كثيرة على أن إيران تشهد تغييرا كبيرا... لكنه تغيير لن يخرجها من تحت عباءة الثورة.