تم السماح أخيرا بدخول بعض المساعدات الانسانية قريبا لمدن سورية حدودية مع لبنان ظلت محاصرة حتى مات عشرات الأهالي فيها جوعا واظطر بعضهم لأكل القطط والكلاب وأوراق الشجر للبقاء على قيد الحياة. لكن متى تدخل هذه المساعدات وهل تستطيع طرد شبح الموت الذي خيم طويلا على مدن مضايا وبقين والزبداني؟فقد قضى أكثر من خمسين سورياً في هذه المدن المحاصرة «شهيد» لقمة أو قطرة ماء أو حبة دواء. فيما ينتظر أكثر من أربعين ألف انسان أن يحمل لهم القدَر في مضايا حلاً يخرجهم من دوامة الموت جوعاً ويعيد للأجساد بعض القوة لتستنشق الحياة مع رغيف خبز أو حبة أرز أو حساء ساخن وربما قطعة لحم من النادر الحصول عليها. الكل في هذه البلدة ينتظر مصيره ويناشد العالم فك الحصار وإبعاد «أشباح الموت» وفتح الطريق أمام الأطفال والنساء والشيوخ للخروج والنجاة من حواجز الميليشيات التي تحاصر البلدة سواء تلك المحسوبة على قوات النظام السوري أو «حزب الله» وايران.وبعد أشهر من التضور جوعا كانت كافية بموت الكثيرين بين أطفال وشيوخ، أكد الأمين العام لحزب التضامن المعارض محمد أبو القاسم إنه سيتم إدخال المساعدات الغذائية بالتوازي إلى كل من مناطق مضايا، ومنطقتي كفريا والفوعة خلال الساعات الماضية.وفي تصريحات إعلامية، أوضح أبو القاسم أوضح إن إدخال المساعدات بشكل دوري إلى المناطق المحاصرة هو جزء من اتفاق «الزبداني – كفريا والفوعة»، وكان من المفترض أن تكون هذه المساعدات دورية إلا أن بعض العراقيل أخرت ذلك.ولفت إلى أن الحكومة السورية أكدت موافقتها على إدخال المساعدات إلى مضايا بريف دمشق الغربي، على أن تدخل كمية مماثلة إلى منطقتي «كفريا والفوعة» المحاصرتين بريف إدلب من قبل ميليشيا «جيش الفتح».ويعيش سكان مضايا الى اليوم على الماء والبهارات التي تمثل لقمة تسد رمق أفواه الأطفال، بعدما ارتفعت أسعار المواد الغذائية ولم يعد بإمكان السكان شراؤها أو ايجادها، اذ تباع في السوق السوداء بأسعار خيالية: فكيلو البرغل يباع بــ 70000 ليرة سوري وكيلو السكر بــــ 60000 والسميد بــ 80000 أما الزيت فيباع بــ 70000. والواضح أن عدداً من المغامرين أرادوا الحصول على مواد غذائية من الحقول أو الخروج من «الجحيم» فكان جزاؤهم الموت برصاص قنّاصة مجموعات موالية للنظام.العجوز المقعد على كرسي، يبكي أمام عيون العالم ويصرخ أنه يريد الخروج من الجحيم مع زوجته وابنه وابنته، ويقول دون رغبة في اعطاء اسمه خوفاً: «متنا من الجوع. منذ ستة أشهر ونحن» مزروبين بالبيت«نعيش على ملح الليمون والماء وتعبانين. ابنتي مصابة بالتهابات في معدتها، نحن بأمسّ الحاجة الى المساعدة والكلام لم يعد يكفي».ويقول آخر وهو يبكي: «منذ 6 أشهر ونحن محاصَرين لا أكل لا شرب، لا ماء لا كهرباء، نحن نموت يا عالم، نموت، أولادي يموتون من الجوع، أنقِذونا، اطلعوا فينا. ما ذنبنا؟ ماذا فعلنا؟ أناشد الدنيا كلها تطلعوا فينا. الدولة والجيش والمسلحون والشياطين والملائكة تطلعوا فينا قليلا، ساعِدونا وفكوا الحصار عن مضايا... ما بقى شي نأكله، ماء ساخن وبعض الاعشاب».لجأ سكان مضايا الى حل مشكلاتهم بأكل ما لا يؤكل دون العودة الى فتاوى المشايخ، فهم أكلوا لحم القطط والكلاب والأحصنة كما الحشائش وأوراق الشجر. وينشر الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي صور أهل وأطفال مضايا وصور الشهداء الذين قضوا جوعاً بعدما تحوّلت أجسادهم الى هياكل عظمية، فيما تستقبل المراكز الصحية يومياً مئات الحالات الناتجة عن الإغماء والإعياء بسبب الجوع، فيما العلاج غير متوافر في ظلّ نقص الادوية ما عدا قليل من المصل اليدوي اي الحساء الساخن مع الأملاح.«الراي» سألت رئيس «حركة العمل الوطني من أجل سورية» وعضو الائتلاف الوطني أحمد رمضان عن الوضع في مضايا وهدف النظام من وراء سياسة الحصار والتجويع، فأكد ان «نظام الأسد يستخدم الحصار كوسيلة لإخضاع الشعب السوري وتجويعه، ويقدَّر عدد المحاصرين من المدنيين بنحو ربع مليون نسمة، وعدد كبير منهم في الغوطة بريف دمشق، إضافة إلى حمص، واستشهد بسبب ذلك 217 مدنياً العام 2015 لوحده، منهم أطفال ونساء. وفي مضايا والزبداني ومعضمية الشام يُحاصر نحو 90 الف شخص للعام الثاني على التوالي ولا يُسمح بدخول المواد الغذائية إلا بطرق التفافية».ويوضح انه «بالرغم من قرارات الأمم المتحدة المتعددة، لم يقم نظام الأسد برفع الحصار بل بالغ في فرضه، بالتعاون مع»حزب الله»والحرس الثوري الإيراني، مشدداً على أن «الأمم المتحدة لم تقم بما تفرضه عليها مسؤولياتها في إنهاء الحصار وإيصال المساعدات، وللأسف عملتْ على المساعدة في تهجير المواطنين السوريين من ديارهم، وهو مخطَّط متعمّد تنفّذه إيران في سورية لتفريغ مناطق معينة من سكانها، وإحلال مرتزقة مكانهم».ويلفت الى أن «ما يقوم به نظام الأسد وعصابات حزب الله والحرس الثوري في ريف دمشق هو جزء من حرب إبادة وجرائم ضد الانسانية، وروسيا باتت شريكة في تلك الجرائم من خلال قصفها الوحشي، وقد أنذرت قبل أسبوع أهالي معضمية الشام بتسليم أسلحتهم أو الرحيل أو مواجهة القصف، وهو عمل مناقض لشرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي، وكان على مجلس الأمن أن يتحرك ويستنكر ذلك، ولا سيما ان توقيع روسيا على القرار 2254 لم يجفّ حبره بعد».ويشدد على أن «صمت المجتمع الدولي وعجزه يدفع نظام الأسد لمزيد من الجرائم ومنها الحصار الظالم، ويعزز صفوف المتطرفين وحججهم»، موضحاً «أن الائتلاف الوطني يتحرك على أكثر من صعيد، سياسياً وقانونياً، لإدانة النظام وتجريمه، وسوقه للعدالة، بسبب جرائمه ضد السوريين»، ويختم: «الصور التي شاهدها العالم عن الزبداني وداريا والمعضمية ودوما والتي تعكس حجم الدمار، يجب أن تدفع المجتمع الدولي للتحرك لإنقاذ السوريين من جرائم النظام وحلفائه وليس الحديث فقط عن الحل السياسي».قصة مضايا معروفة، اذ اعتُبرت جزءاً من اتفاق الزبداني (ريف دمشق)- الفوعة وكفريا (ريف ادلب) الذي رعته الامم المتحدة وتم قبل أيام تنفيذ المرحلة الثانية منه التي قضت بإخراج مدنيين وجرحى في غالبيتهم من هذه البلدات الثلاث لقاء إدخال مساعدات غذائية للمدنيين المحاصَرين منذ أكثر من 200 يوم في مضايا. لكن الوعود بقيت حبراً على ورق ولم تدخل حتى الساعة المواد الغذائية ولا الطبية لعائلات يموت أفرادها من الجوع دون أن تأبه الامم المتحدة لحالهم.تُعتبر مضايا، التي تتبع ادارياً لمنطقة الزبداني، إحدى المدن المهمّة لكونها ذات موقع استراتيجي مشرف على خط بيروت - دمشق، اذ تقع الى شمال غرب دمشق في سلسلة جبال لبنان الشرقية، وتُعد مصيفاً رئيسياً في سورية جنباً إلى جنب مع مدينة الزبداني.منذ بداية الثورة السورية انتفضت مضايا (والزبداني) ضد الرئيس السوري بشار الأسد وكانت أول بلدة تطالب صراحةً بإسقاط النظام، مما دفع الجيش السوري للتدخل وقصف المدينة بالمدفعية بشكل متقطع حتى 13 يناير 2012 وهو التاريخ الذي وقعت فيه معركة الزبداني بين كتائب حمزة بن عبد المطلب التابعة لــ «الجيش السوري الحر» وأعداد كبيرة قدّرت حينها بــ30 ألفاً من الجيش السوري النظامي مدعومين بـ 50 دبابة و9 قطع مدفعيّة بالإضافة لمشاركة مقاتلين من «حزب الله» اللبناني قدّروا بـ 300 مقاتل بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وذلك لإقتحام مضايا والزبداني وإنهاء وجود «الجيش الحر» فيها كونها منطقة إستراتيجية علاوة عن تأمين الحدود مع لبنان. وقد انفجرت حينها معركة كبيرة في السهل وكبّد «الجيش الحر» الجيش النظامي خسائر فادحة ولا سيما تدمير نحو 21 دبابة و15 آلية عسكريّة، والأهمّ مقتل عشرات الجنود. وفي المقابل قام الجيش السوري بإستهداف مضايا والزبداني براجمات الصواريخ والقصف المدفعي العنيف مما أفضى إلى تدمير واسع في المدينتيْن ومقتل أكثر من 100 من أهاليهما وعدد من الثائرين.ونتيجة القصف لحقت أضرار كبيرة بالبنية التحتية في مضايا، حيث نزح غالبية سكانها إلى بلودان وبلدة بقين المجاورة. وانتهت المعركة حينها بإتفاق بين «الجيش السوري الحر» والجيش السوري النظامي على انسحاب الطرفين من أبواب البلدة لحقن الدماء، مما أدى لعودة الأهالي إليها. إلا أنه في الأعوام اللاحقة تبين أن النظام السوري يسعى الى السيطرة المباشرة على مضايا، فيما أشار المرصد السوري الى أن المدينة بقيت خلال هذه الفترة خاضعة لسيطرة بعض المجموعات فمرّة كانت تقع بيد «جبهة النصرة» ومرة بيد «الجيش الحر» مع شبه حصار مفروض عليها من النظام السوري وتعرّضها أحياناً لعدة ضربات بالدبابات والمدفعية من جبل الكرسي وذلك عند حدوث نزاع بين الثوار والنظام.وفي الفترة الأخيرة حاول الجيش السوري ضمّ مضايا إلى سيطرة النظام مثلما يحاول في الزبداني وجوارها. وقد أدت هذه المحاولات المتكررة إلى تدمير الكثير من البنية التحتية بسبب البراميل المتفجرة ومقتل العديد من المدنيين. وبحسب الاحصاءات، فإنه منذ بداية الحرب على مضايا في يونيو 2011 وحتى 25 يناير 2015 قُتل أكثر من 200 شخص بين مدني ومقاتل بينهم العديد من الأطفال والنساء جراء القصف العشوائي.ويشير الأهالي الى أن المساعدات الغذائية أُدخلت عدة مرات من الأمم المتحدة ومنها شحنة من «البسكويت الفاسد» الذي أدى إلى تسمم السكان. واليوم تعيش مضايا في ظلّ الحصار من الجيش النظامي و«حزب الله»، ويُمنع سكانها من الدخول والخروج منها بحجة وجود مسلحي للمعارضة، والأخطر قيام قوات النظام بزرع نحو 5000 لغم أرضي مضاد للأفراد حولها، لمنع أعمال التسلل من البلدة الى خارجها وهو ما حال دون نزول السكان الى الحقول للزراعة أو قطف الثمار.وقد ارتفع عدد الوفيات بعد توقف ادخال المساعدات من الامم المتحدة في اطار اتفاق الهدنة في الزبداني - كفريا والفوعة، والذي يشمل بلدة مضايا، كما أدت موجة البرد الأخيرة وانخفاض درجات الحرارة الى ما تحت الصفر الى وفاة عدد من الأهالي من البرد والجوع، وسط استمرار حصار البلدة ومعها الزبداني فيما الفوعة وكفريا تنعمان بالأمن والغذاء الذي يلقى عليها من الطيران السوري.
متفرقات - قضايا
السماح بإدخال المساعدات إلى مدن سورية على الحدود اللبنانية بعد موت 50 من أهلها جوعا!
«مضايا» يحاصرها التجويع المميت وتمضي كأن العالم ... مات!
02:01 ص