يشكل «الترحيل» السمة الأقلّ كلفة في لبنان المأزوم والمحاصَر بزنّار من النار الإقليمية. فأزمة النفايات التي لم تجد لها حلاً على مدى أكثر من خمسة أشهر من روائح الاستقطاب السياسي الحاد، حلّت امس على طاولة مجلس الوزراء ايذاناً بـ «ترحيلها» الى الخارج، والحوار الوطني الذي انعقدت جولته الـ 12 امس ايضاً لم يجد سبيلاً للخروج من «عنق الزجاجة» إلا بـ «ترحيل» الملفات الخلافية مَرّة بعد مرة. أما الانتخابات الرئاسية التي مضى على استعصائها اكثر من عام ونصف عام فانها «تُرحّل» من جديد الى السنة المقبلة، الامر الذي يبقي الحكومة في وضعية تصريف أعمال مقنّع ويمدّد شلل البرلمان الى أجَل غير مسمى.ولم يكن اتضح حتى مساء امس مصير خطة ترحيل النفايات التي اجتمعت الحكومة لمناقشته في جلسة «قيصرية» هي الاولى لها منذ 9 سبتمبر الماضي، وسط اعتراضات وملاحظات وأسئلة، طابعها تقني - مالي وجوهرها سياسي، وأبرزها كانت لـ «التيار الوطني الحر» بزعامة العماد ميشال عون، الذي أصبح أكثر ميلاً الى ربْط «كل شاردة وواردة» بمعركة عون «المصيرية» للوصول الى الرئاسة الاولى.ورغم ان طاولة الحوار التي افتُتحت جلستها برثاء من «مديرها» رئيس البرلمان نبيه بري لعميد الاسرى اللبنانيين سمير القنطار الذي اغتالته اسرائيل في سورية ليل السبت - الاحد، جددت التأكيد على ضرورة تفعيل عمل المؤسسات ولا سيما الحكومة لتمكينها من إدارة شؤون اللبنانيين، فإن المناقشات التي تجنّبت الخوض في الاستحقاق الرئاسي، كشفت عن صعوبة تحقيق اي اختراق في المأزق السياسي - الدستوري في المدى القريب.ورغم عودة رئيس حزب «الكتائب» النائب سامي الجميل عن مقاطعته طاولة الحوار بعدما كان علّق مشاركته بانتظار انعقاد الحكومة، فان غياب العماد عون عن الاجتماع وتمثيله بصهره وزير الخارجية جبران باسيل اضافة الى عدم حضور النائب وليد جنبلاط (لأسباب قيل انها صحية)، بدا شديد الوطأة على الحوار الذي طالته ارتدادات معركة الرئاسة الاولى التي صارت معلَنة بين مرشحين من قوى 8 آذار هما عون ورئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية. وقد «هرب» المجتمعون من مناقشة الملف الرئاسي «الملغوم» بصراع عون - فرنجية وحصر مداولاته بعنوان تفعيل عمل الحكومة وإزالة المعوقات من امام السير بحلّ ترحيل النفايات.وجاء ذلك على وقع إبداء مصادر واسعة الاطلاع في بيروت تشاؤماً حيال مصير الحركة السياسية والديبلوماسية التي افضت الى ترشيح فرنجية للرئاسة الاولى، وخصوصاً بعد انكسار اندفاعتها الاولى وبروز تعقيدات لا يستهان بها في وجهها.وقالت هذه المصادر لـ «الراي» ان «القطبة المخفية» في تراجع الحظوظ الرئاسية لفرنجية، اقله في المدى المنظور، تتّصل بملاحظات جوهرية لـ «حزب الله» على ملابسات ما وُصف بـ «المبادرة الجدية وغير الرسمية» لزعيم «تيار المستقبل» الرئيس سعد الحريري بترشيح فرنجية وما يحوطها من التزامات ومواقف وما شابه.وليس ادلّ على الموقف المكتوم غير المتحمّس لمضي فرنجية في معركته، بحسب هذه المصادر، هو معاودة «حزب الله» التأكيد مراراً وتكراراً دعمه المرشح لـ «مدى الحياة» العماد عون، وخصوصاً في لحظة اشتباك سياسي بين زعيميْ «المردة» و«التيار الوطني الحر»، الامر الذي يعني تعليق عملية انتخاب رئيس للجمهورية الى اجل مفتوح.وتتباين التقديرات في شأن أسباب فرملة «حزب الله» للمسار الرئاسي وخلفياته. ففي حين تتحدث بعض الاوساط عن طبيعة داخلية مردّها الى «نقزة» من التزامات زعيم «المردة» المسبقة للطرف الآخر، ترى اوساط آخرى ان الآمر يرتبط بـ «التوقيت الاقليمي» الذي يحكم مقاربة «حزب الله» للملفات اللبنانية.ومع تأجيل جلسات الحوار الوطني الى 11 يناير 2016، ستكون الايام الفاصلة عن حلول السنة الجديدة وجلسة الانتخابات الرئاسية المحددة في السابع من الشهر المقبل، فسحة لاستكشاف آفاق الملف الرئاسي في ضوء ما سيتبلور من مواقف وما اذا كان الرئيس الحريري سيطلّ على اللبنانيين في الاسبوع الاول من 2016 للاعلان رسمياً عن دعم ترشيح فرنجية، بعدما تولى الاخير ترشيح نفسه كونه الاوفر حظاً في تأمين النصاب الضروري لانتخابه. علماً ان الأنظار بدأت من الآن تتركّز على الزيارة المرتقبة للرئيس الايراني حسن روحاني لباريس في اواخر يناير، والتي سيشكل الملف اللبناني عنوان بحث رئيسياً فيها، مع الاشارة الى ان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند كان أعطى اول اشارة «مباركة» دولية لانتخاب فرنجية رئيساً عندما بادر الى الاتصال «غير المألوف» به غداة استقباله (اي هولاند) الرئيس الحريري الذي كان المبادر الى طرح اسم زعيم «المردة» للرئاسة.ولم يكن أقلّ اهمية في بيروت ما اعلنه الناطق باسم الخارجية الايرانية عن جهود ديبلوماسية تُبذل بين ايران والسعودية لإعداد الأرضية لحوار مباشر من اجل تسوية الخلافات والقضايا الاقليمية، وهو ما يمكن بحال حصوله ان يوفّر الأفق الاقليمي الضروري للإفراج عن الاستحقاق الرئاسي اللبناني.وقد استبق الحريري عطلة الاعياد متوجّهاً في بيان له «بالتهنئة من جميع اللبنانيين لمناسبة حلول الأعياد المباركة، التي تجتمع فيها لهذا العام أعياد المسيحيين والمسلمين في أسبوع واحد.»وقال: «ان المولد النبوي الشريف وعيد ميلاد السيد المسيح وحلول رأس السنة الميلادية، هي ايام مجيدة ومباركة يلتقي اللبنانيون على الاحتفال بها والتعبير من خلالها عن القيم النبيلة لحياتهم الوطنية المشتركة ومعاني الرسالة الانسانية والروحية والحضارية التي يمثلها لبنان. انني اتوجه في هذه الأيام بأحر التهاني القلبية من جميع اللبنانيين، سائلا الله العلي القدير ان يعيدها على وطننا، وقد انزاحت عن صدره غيمة الشغور الرئاسي، لتحلّ مكانها أجواء الحوار والتضامن والعمل في سبيل اعادة الاعتبار لهيبة الدولة والشرعية، ومواجهة التحديات الماثلة بما تستحق من جهود سياسية وأمنية واقتصادية، وتجديد الثقة بالمؤسسات الدستورية ودورها في نهوض لبنان».