إنها زغرتا. إنها إهدن. هي بلدة رئيسين للجمهورية اللبنانية هما سليمان فرنجية (1970 - 1976) ورينيه معوّض (من 5 نوفمبر إلى 22 نوفمبر 1989 تاريخ اغتياله)، وهي مسقط رأس بطريركٍ على طريق القداسة هو اسطفان الدويهي، وبلدة زعيم وبطل لبناني اسمه يوسف بك كرم. هي التي قدّمت أكبر مجموعة من الأدباء والشعراء والمسرحيين، وهي المدينة التي تعود إلى الواجهة اليوم مع محاولة الإفراج عن الاستحقاق الرئاسي من خلال ترشيح النائب سليمان فرنجية.لا يمكن أن تكون ابن زغرتا وحدها. بل أنت ابن إهدن وزغرتا معاً. فهي جسم واحد ومدينة واحدة، ساحلية وجبلية. تنتمي إلى زغرتا بسجلات النفوس وبالإقامة شتاء في مدينة أعطت اسمها للقضاء زغرتا الزاوية. لكنك تنتمي إلى إهدن، بالفطرة وبالتاريخ وبالانتماء، وأنت تعود إليها صيفاً، إلى مرتع جبلي يشرف على كل ما هو جميل من طبيعة لبنان، القرنة السوداء، الوادي المقدس، نبع مار سركيس، سيدة الحصن، الأبنية الاثرية، والأهم الميدان، حيث تنبض الحياة ليلاً بكل ما فيها من سهر وجمال يعشقه كل من يقصد إهدن.وإهدن شتاءً هي للذين يحبونها، بلدة الثلج والضباب، والأبيض المترامي، والسكون المليء بشغف العيش على علو يتعدى 1500 متر. هي إهدن المفتوحة بيوتها الصيفية على مصراعيها كما تنفتح فنادقها ومقاهيها فلا تنام إلا فجراً، ولا يمكن أن تزورها من دون الجلوس إلى ميدانها الواسع الذي يحوّل أهلها والآتين إليها من بعيد، مجموعة واحدة يلفحها هواء الليل البارد.هي زغرتا الأحياء العتيقة التي تنتمي إليها العائلات، والبلدة الشتائية الباردة، مركز القضاء ومقصد أهله ومركز الزعامة المسيحية والمارونية الشمالية، وهي التي يكنى بها أبناؤها، حتى أصبح لقب «الزغرتاوي» هو الألصق، بعدما كان لقب «الإهدني» هو الطاغي. إنها زغرتا، البلدة الأثرية والمنازل القديمة، والعائلات التي تنزل جماعات جماعات عند أول «شتوة» إلى زغرتا، وتعود أيضاً جماعات إلى إهدن عند أول الصيف.لا يمكن الحديث عن زغرتا البلدة التاريخية من دون أن يكون الكلام عنها ممزوجاً بالحنين إلى تاريخ عريق وبلدة عُرف أهلها بالعنفوان وبالمعنويات العالية، وبالكرم الذي يفوق الحدّ العادي، وبالمأكولات الزغرتاوية التي لا تُضاهى. ولا يمكن للحديث عن زغرتا إلا أن يكون متداخلاً بين مثلث الثقافة والدين والسياسة، فهي من البلدات التي عَرفت تاريخاً مأسوياً، فارتبط اسمها بأعمال الثأر وباللباس الأسود لنسائها، لكنها عرفت كيف تخرج من بوتقة الأحزان، لتعيد صوغ حاضر جميل، يقدّم نفسه بغنى وبمزيج من اللفحات الجميلة لبلدة يُفاخر أهلها بأنهم ينتمون إليها. كيف لا وزغرتا تُعرف بارتفاع عدد المثقفين والأدباء والشعراء من أبنائها،منهم روائيون وشعراء مسرحيون، يتقدمهم المؤرخ جواد بولس والرسام العالمي صليبا الدويهي، الذي انتشرت لوحاته على مستوى دولي. ومن الروائيين يبرز اسم رشيد الضعيف والشقيقان انطوان وجبور الدويهي، والأب ميخائيل معوض والشاعر جرمانوس جرمانوس والراحل جورج يمين، والمخرج يعقوب الشدراوي.وإذا كان اللبنانيون من الجيل الجديد يعرفون إهدن بسبب مهرجان «إهدنيات» الفني، إلا أن إهدن بالنسبة إلى أبنائها، هي مهرجان في حد ذاته حتى في عزّ الحرب والحصار، حين كان المسرح شاغلهم، كما الرواية والموسيقى، في نمط حياةٍ لا يشبه أي بلدة أخرى، وتَعزز بفعل العلاقة بين زغرتا وباريس التي يقصدها غالبية أبناء زغرتا للعلم والثقافة فيها.بالنسبة إلى الزغرتاويين والإهدنيين، هي البلدة التي ارتبط اسمها بالكنيسة المارونية، سواء لجهة عدد البطاركة الذين ساهموا في ازدهار الكنيسة المارونية أو لجهة عدد المطارنة على مدى أعوام طويلة، علماً أن منطقتيْ زغرتا وبشري كانتا من أكثر المناطق التي تبلورت فيها الطائفة المارونية قبل الاحتلال العثماني وبعده، وهي البلدة التي تنتشر فيها كنائس أثرية تبرز بينها كإرث عاطفي وتاريخي كنيسة السيدة في زغرتا وسيدة الحصن في إهدن.وزغرتا أكبر المدن المارونية، تعيش عراقتها، كون جذورها ضاربة في تاريخ لبنان، هي البعيدة عن قلب جبل لبنان والعاصمة حديثاً، كانت ولا تزال في قلب الحدَث اللبناني. وليست قصة زعيم زغرتا يوسف بك كرم، قصة خيالية. فجسده المحنّط الموجود في كنيسة مارجرجس الأثرية، شاهِد على عظمة رجل يوصف بـ «بالبطل» الذي لعب دوراً بارزاً حين تولى زعامة إهدن، خلفاً لوالده في محاربة العثمانيين إبان احتلالهم للبنان. وقد نُفي إلى الخارج، حيث توفي في إيطاليا وأعيد جثمانه إلى لبنان، ليوضع محنطاً في تابوت زجاجي في الكنيسة الأثرية ويصبح محجة للزوار من أبناء زغرتا ولبنان.في تاريخ لبنان الحديث لعبت زغرتا في العقود الأخيرة دوراً محورياً، سواء في فترة الانتداب أو في استقلال لبنان. وقد تميزت بميزتين أساسيتين في تلك المرحلة التي رافقت الحرب العالمية الأولى ومن ثم الانتداب الفرنسي: أولاً بالهجرة الكثيفة منها ومن القرى المحيطة بها. وهذه الهجرة رغم كثافتها، جعلتها على تواصل مع العالم الخارجي، لأن أبناء المدينة ظلوا على ارتباط دائم بعائلاتهم وبمدينتهم، إذ يندر أن توجد عائلة زغرتاوية لا يوجد أقرباء لها في دول الاغتراب. والميزة الثانية هي ارتفاع نسبة المتعلّمين فيها، مع بداية القرن الحالي، نظراً إلى ارتباط المنطقة بالرهبانيات وبالكنيسة التي كانت ترسل أولادها إلى روما وأوروبا للتعلم، واستمرّت الحال على ما هي حتى يومنا هذا.سياسياً، ومع تَكوُّن دولة لبنان الكبير العام 1921، ومن ثم استقلال لبنان، بدأت العائلات الإقطاعية في زغرتا تفرز نفسها، أي تلك التي كانت تفرض وجودها سياسياً وتتأقلم مع المتغيرات السياسية الجديدة. وتبعاً لذلك تغيّرت هوية العائلات التي تحكم زغرتا، والتي تقدّم قيادات فاعلة في المدينة. ففي مرحلة الاستقلال برز اسم وزير الخارجية حميد فرنجية، الذي بدأ حياته السياسية نائباً العام 1932 وهو والد النائب السابق سمير فرنجية وشقيق سليمان فرنجية الذي أصبح العام 1970 رئيساً للجمهورية.لكن في موازاة عائلة فرنجية التي كانت بدأت تتقدم إلى الواجهة السياسية في زغرتا، برزت عائلة الدويهي التي قدّمت إلى البرلمان في الستينات من القرن الماضي أول كاهن نائب هو الأب سمعان الدويهي.وكان الدويهي راهباً ينتمي إلى الرهبانية الأنطونية، ونائباً وزعيماً لأكبر العائلات الزغرتاوية، وكان متحالفاً مع الرئيس كميل شمعون، ولعب دوراً أساسياً خلال الحرب اللبنانية في الدفاع عن زغرتا.كما تقدّمت عائلة معوض التي ينتمي إليها أول رئيس للجمهورية بعد اتفاق الطائف رينيه معوض، الذي كان ابن الشهابية أي خطّ الرئيس فؤاد شهاب، والذي انتُخب نائباً بدءاً من العام 1957 وكان وزيراً قبل أن يُنتخب رئيساً في 5 نوفمبر 1989 ويغتال بعد 17 يوماً بسيارة مفخخة.لم تطبع المأساة بلدة كما طبعت حياة زغرتا. وليس أمراً عابراً أن تمرّ في حياة أهل المدينة مجزرتان، الأولى مجزرة مزيارة في يونيو من العام 1957 التي ذهب ضحيتها أبناء عائلات زغرتاوية، واتُهم سليمان فرنجية بارتكابها ليفرّ بعدها إلى سورية، وقد حوّلها الروائي جبور الدويهي رواية بعنوان «مطر يونيو». أما المجرزة الثانية التي طبعت شهر يونيو أيضاً ولكن من العام 1978، فكانت مجزرة إهدن التي قام بها حزب «الكتائب» ضد عائلة فرنجية وذهب ضحيتها إضافة إلى النائب طوني فرنجية وزوجته فيرا وطفلتهما جيهان، أبناء عدد من العائلات الزغرتاوية. وفي المجزرتين أخذ الموت اغتيالاً مجموعة من شباب زغرتا.وإذا كان السواد لفّ زغرتا طويلاً، فإن الخصومة العائلية وأعمال الثأر العائلي، تحولت بفعل الحرب اللبنانية تضامناً بين أهلها، الذين التفوا في مواجهة الاعتداءات التي طاولت أبناء المدينة.فخلال الحرب ذهبت الخصومات التقليدية، وكرّست عائلات فرنجية والدويهي ومعوّض في ظل قيادات الرئيس فرنجية والنائبين رينيه معوض والأب الدويهي، إجماعاً على تحييد المدينة عن الحرب. وساهم فك الرئيس فرنجية حلفه مع «الجبهة اللبنانية» في عزلة المدينة، لكن أقسى ما شهدته كان مجزرة إهدن. والمفارقة أن زغرتا لم تتوحّد في السلم كما وحّدتها مأساة هذه المجزرة ومن ثم اغتيال الرئيس معوّض. علماً أن هذه المدينة كانت عاشت أبهى أيامها يوم انتخاب الرئيس فرنجية ويوم انتخاب الرئيس معوض، وإن بفارق الظروف والحيثيات السياسية المحلية والإقليمية. وبقدر ما طغى رصاص الفرح على الحدَثين، بالقدر ذاته شيّعت المدينة زعيميها. وإن كان اغتيال معوض ومعه أيضاً مجموعة من شباب زغرتا المرافقين له، ساهم في تخليد مسيرة الحزن الزغرتاوية.لذا لا يمكن قراءة مرحلة تاريخ زغرتا الحديث إلا من زاوية تأثيرات الموت عليها، وعلى قيادة عائلة فرنجية لها. وقد ساهمت وفاة الأب الدويهي واغتيال معوّض لاحقاً في تكريس زعامة الحفيد سليمان فرنجية لوحده على المدينة، ولا سيما في فترة الوجود السوري وتحالفه مع عائلة الرئيس حافظ الأسد. لكن فرنجية الحفيد لا يمكن أن يحكم لوحده وإن تزعّم القيادة السياسية، ذلك أن ظِلّ العائلات لا يزال يتحكم بزغرتا، ولا يمكن الخروج من عباءتها، ولذا كان لا بد لفرنجية أن يتحالف مع عائلة الدويهي، وتارةَ مع عائلة معوض وتارةً أخرى مع عائلة كرم وهي كبرى العائلات الزغرتاوية. في المقابل كان معارضوه أيضاً مضطرين إلى التحالف مع العائلات نفسها لاختيار مرشحين للنيابة كأخصام له.ومنذ أن تسلّم فرنجية الحفيد زعامة زغرتا، تَحالَف أولاً مع أرملة الرئيس معوض، السيدة نايلة معوض، لكن الحلف تحول لاحقاً خصومة تبعها افتراقٌ تكرّس بعد العام 2005 حين تحالفت معوض مع سمير حميد فرنجية ابن عم والد سليمان فرنجية، في معركة خسر خلالها فرنجية الحفيد النيابة ليعود نائباً العام 2009.واليوم يُطرح اسم النائب سليمان فرنجية للرئاسة، ومعه تعود زغرتا إلى واجهة الحدَث السياسي، إذ لا يمكن فصل فرنجية عن البلدة التي قدّمت رئيسين للجمهورية. علماً أن قصة زغرتا لا تشبه قصة بكفيا التي قدمت أيضاً رئيسين للجمهورية هما الشقيقان بشير الجميل وأمين الجميل الذي جاء رئيساً العام 1982 بحكم اغتيال أخيه فقط. ذلك أن زغرتا نموذج في حد ذاته، لأن السياسة فيها خبزها اليومي، ولأن تاريخها مع رئاسة الجمهورية يختلف عن تاريخ البلدات اللبنانية الأخرى، ولأن الخصومات السياسية الحالية والتي تَكرّست بفعل الانقسام الحاد بين فريقيْ 8 و14 مارس، تركت آثارها في زغرتا أيضاً، رغم المحاولات الحثيثة لترْكها بمنأى عن التأثيرات الخارجية.ومهما كانت نتيجة المساعي السياسية الأخيرة، وسواء أصبح فرنجية رئيساً أم لا، فان زغرتا ستبقى بالنسبة الى ابنائها، البلدة العصية على كل محاولات تطويعها، غنية بعائلاتها وبكثافة أبنائها المنتشرين في الخارج، وبأنها كانت ولا تزال رغم بُعدها الجغرافي، في قلب الجبل اللبناني، لا يمكن لأي طرف مسيحي أو لبناني أن يتجاوزها.
متفرقات - قضايا
البلدة العصية على كل محاولات تطويعها تعود إلى واجهة الحدث السياسي بطرح اسم سليمان فرنجية لرئاسة لبنان
زغرتا «المسكونة» بالثقافة والدم ... مسقط رأس رئيسيْن وربما ثالث
02:02 ص