يشكّل قانون الانتخاب، في تقسيماته وطبيعته المدخل لـ «تكوين السلطة» في لبنان كما في أيّ دولة أخرى، وهو ما يفسّر تاريخياً التلاعب الدائم بهذا الممرّ الإجباري لصوغ التوازنات في البرلمان، تبعاً لأهواء العهود السياسية ومصالح رموزها. فمجلس النواب ينتخب رئيس الجمهورية، ويسمّي في استشارات ملزمة معه رئيس الحكومة التي يمنحها البرلمان الثقة ويحجبها عنها، إضافة إلى دوره التشريعي والرقابي.ورغم أن المعطيات المستجدّة في لبنان جعلت من النائب سليمان فرنجية مرشّحاً جدياً لرئاسة الجمهورية، فإن تأمين غالبية نيابية لإمرار انتخابه يرتبط في شكل أساسي بالسلّة الشاملة للتسوية التي يُعتبر قانون الانتخاب العتيد «عمودها الفقري» كواحدة من الضمانات التي يريدها الجميع من منطلقات متناقضة في مقاربة الطبيعة السياسية - الإدراية لقانون الانتخاب.ولم يعدّ سرّاً القول إن ثمة ضغوطاً كثيفة جرت أخيراً لوضع مشروع قانون الانتخاب على الطاولة، وخصوصاً بعدما كانت الأجواء توحي بانسداد الأفق أمام انتخاب رئيس جديد في ظلّ تعطيل انتخابه منذ عام ونصف العام، وهو ما تجلّى في المعركة القاسية التي خاضها الثنائي الماروني العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع لوضْع بند قانون الانتخاب على جدول أعمال جلسة «تشريع الضرورة» للبرلمان التي انعقدت بـ «شقّ الانفس» واحتاجت إلى تسويات لتمريرها.يشكل قانون الانتخاب منذ ما قبل التمديد الأول للبرلمان هاجساً أساسياً للقوى السياسية اللبنانية التي أعادت منذ اتفاق الدوحة (مايو 2008) طرْح القانون على طاولة الحوارات الثنائية أو الموسّعة، انطلاقاً من أن القانون كان ولا يزال عصَب الحياة البرلمانية في لبنان. وهو لا يمثل لبّ المشكلة الحالية، بسبب الشغور الرئاسي فحسب وطموح كل طرف سياسي إلى تعزيز مكانته النيابية، إذ لطالما شكّل هذا القانون ركيزة الحياة السياسية في لبنان منذ الاستقلال العام 1943، وتحوّل سلاحاً بيد رؤساء الجمهورية، في جمهورية ما قبل الطائف، وسلاحاً بيد النظام السوري بعد الطائف، وبيد التحالف الرباعي (بين «تيار المستقبل» و«حزب الله» وحركة «أمل» والحزب التقدمي الاشتراكي) بعد العام 2005.فقانون الانتخاب في لبنان لا يتعلّق فقط بكيفية الاقتراع والنظام الانتخابي، بل أيضاً بعدد الدوائر الانتخابية، لأن في تقسيمات الدوائر يكمن سرّ اللعبة السياسية وقدرة النظام الحاكم على تجيير أصواته والفوز بما يريد من مقاعد، وبعدد المقاعد النيابية أيضاً.في الآونة الأخيرة، أعيد طرح مجموعة من القوانين الانتخابية على بساط البحث، ولا سيما منذ أن طرحت مجموعة من القوى المسيحية مشروعاً عُرف باسم «المشروع الأرثوذكسي» الذي يقضي بانتخاب كل طائفة نوابها، مسيحيين ومسلمين، وهو الأمر الذي لاقى رفضاً من المكوّنات الإسلامية، ولا سيما أن هذه القوى تضم في أحزابها وتيّاراتها مجموعة من النواب المسيحيين.وبعد رفض «الأرثوذكسي» جُبه الطرح بقوانين متعددة منها القانون النسبي والأكثري مع دوائر مختلفة عن تلك التي اعتُمدت في قانون 1960، ومشاريع مختلطة بين الأكثري والنسبي. لكن حتى الآن لا يزال البحث يدور في مكانه، لا بل أعيد في الأيام الأخيرة إحياء قانون 1960.والواقع أن لبنان لم يعرف من نظام الاقتراع سوى النظام الأكثري، بمعنى أنه كلما زاد عدد الأصوات فاز المرشح. أما عدد النواب فكان يتأرجح بحسب العهود، فالانتخابات الأولى التي سبقت بشهرين تقريباً الاستقلال تمّت على أساس عدد النواب 55 نائباً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى انتخابات العام 1947. وفي 1950 عُدّل الدستور ليصبح عدد النواب 77 نائباً قبل أن يعدّل الرئيس كميل شمعون الدستور مجدداً العام 1952 لتجري الانتخابات على أساس 44 نائباً، والعام 1953 صار عدد النواب 66 نائباً، وبدءاً من العام 1960 ارتفع عدد النواب إلى 99 نائباً. وفي اتفاق الطائف اتُفق على زيادة العدد إلى 108 نواب، لكن مجلس النواب اللبناني عدل الاتفاق وصار العدد 128 نائباً بدءاً من العام 1992 وحتى اليوم مع اعتماد قاعدة المناصفة المسيحية - الإسلامية في توزيع المقاعد، بعدما كانت القاعدة السابقة تقوم على ستة مقاعد للمسيحيين مقابل خمسة مقاعد للمسلمين.ومنذ العهد الأول لجمهورية الاستقلال، في ظل الولاية ونصف الولاية للرئيس بشارة الخوري، عرف لبنان قدرة النظام الانتخابي على الإمساك بمقاليد السلطة.ولعلّ ما مارسه الخوري حين لعب بقانون الانتخاب مفصّلاً إياه على مقاسه ومقاس حاشيته، كان السبب في إسقاطه العام 1953 ومنعه من إكمال ولايته الثانية.أتى الخوري في ظل سلطة الانتداب، لكن في بداية عهده استقلّ لبنان في نوفمبر من العام 1943. كانت انتخابات سبتمبر أُجريت في ظلّ سلطة الانتداب على أساس خمس دوائر انتخابية، أي خمس محافظات: بيروت، ولبنان الشمالي، جبل لبنان، لبنان الجنوبي، البقاع، وتَوزّع النواب طائفياً كالآتي: ماروني 18، سني 11، شيعي 10، ارثوذكس 6، درزي 4، كاثوليك 3، أرمن أرثوذكس 2، أقليات1. وعَكَس التوزع الطائفي والمذهبي حينها التوزُّع الديموغرافي في لبنان، وهو يعطي دلالات واضحة عن التأثيرات السياسية والطائفية التي كانت سائدة حينها، وأعطت المسيحيين الأرجحية في عدد النواب أي 30 نائباَ مقابل 25 للمسلمين.وفي العام 1947، كان الرئيس بشارة الخوري قد أحكم قبضته على السلطة، وهو وإن لم يعمل على تعديل قانون الانتخاب ليأتي متوافقاً مع سياسته، إلا أن هذه الانتخابات التي عُرفت تاريخياً باسم انتخابات «25 مايو» حفلت بممارسات التزوير التي اتّهم خصوم الخوري رئيس الجمهورية وشقيقه الذي أطلقوا عليه اسم «السلطان سليم» بأنه ارتكبها. وكان الخوري صريحاً بما يكفي لأن يكتب في مذكراته «حقائق لبنانية» إنه كان يتمنى لو لم يتدخل في تأليف اللوائح «لكن ما العمل وعقلية بني قومنا تتطلب من الرئيس كل شيء؟».وفسّر الخوري كيف فازت لوائح الحكومة متحدّثاً عن الاحتجاجات والمزاعم بالتزوير لكنه قال «إن مراعاة الأصول لم تكن لتغيّر شيئاً في النتائج»، وبين الاتهامات المتبادلة حول التزوير، بدا أن الهدف من إجراء الانتخابات بالشكل الذي حصل هو التجديد للخوري قبل عام من انتهاء ولايته.وفي 1951 أُجريت الانتخابات الثانية في عهد الخوري التي فاقت الأولى بالتزوير وبمحاولات الهيمنة، وعُدّل عدد النواب ليصبح 77 نائباً، 42 نائباً مسيحياً و35 مسلماً، وعُدّلت أيضاً الدوائر الانتخابية لتصبح 9 دوائر، إذ بذلك يسهل التحكّم بالناخبين بحسب أخصام الخوري. لكن الأمور جرت عكس ما يشتهي الخوري إذ فاز أركان المعارضة في الشوف أي كميل شمعون وكمال جنبلاط، وبدأ العدّ العكسي لإسقاط الخوري.انتُخب كميل شمعون رئيساً العام 1952 بعدما أجبرت المعارضة الخوري على الاستقالة، في منتصف ولايته الثانية. وفي 1953 عدّل شمعون الدستور فقلّل عدد النواب إلى 44 نائباً وأعاد تقسيم الدوائر الانتخابية على أساس القضاء، أي 33 دائرة منها دوائر فردية، الأمر الذي ساهم بفك التحالفات الكبيرة وتقليص نفوذ الزعامات التقليدية، وقد اعتبر خصوم شمعون أنه حصل على مراده من تقسيم انتخابي وتقليل عدد النواب على هذا الشكل.والعام 1957 أعاد شمعون تقسيم الدوائر فأصبحت 27 دائرة، أي أنه عمل على إعادة تكبير بعض الدوائر السابقة وتصغير البعض الآخر، ورفع عدد النواب مجدداً إلى 66 نائباً. لكن شمعون أيضاً تحكّم باللعبة الانتخابية، كما اتهمه خصومه الذين خاضوا لاحقاً معركة إسقاطه بثورة العام 1958 متهمين إياه بمحاولة التجديد لعهده.وجاء الرئيس فؤاد شهاب العام 1958 وجاء معه المكتب الثاني الذي مارس بضبّاطه وعسكرييه كل ما يمكن أن يُسجل من سيئات في عهد شهاب الذي حفل بإيجابيات على صعيد العمل المؤسساتي والإداري. لكن المكتب الثاني تحكم بالانتخابات. ففي العام 1960 رُفع عدد النواب إلى 99 نائباً، وأعيد تقسيم لبنان إلى 26 دائرة. واستمرّ العمل بهذه التعديلات في الانتخابات التي جرت في أعوام 1964 و1968 و1973.وشكل القانون المذكور علامة فارقة في تاريخ الانتخابات في لبنان، وهو القانون الذي أعيد إحياؤه العام 2005 حين كان وزير الداخلية سليمان فرنجية، وأعيد العمل به في اتفاق الدوحة (2008)، وبدأ يتردّد حالياً أنه موضوع بقوة على الطاولة.لم يلغ هذا القانون الممارسات التي قام بها المكتب الثاني في انتخابات 1964 في عهد شهاب، وردّ الحلف الثلاثي عليه (ضم كميل شمعون وريمون أده وبيار الجميّل) بالفوز في انتخابات العام 1968 إبان عهد الرئيس شارل حلو.وجدّد مجلس النواب المنتخب عام 1972 لنفسه مرات عدة، خلال الحرب اللبنانية التي امتدّت بين 1975 و1990، بعدما تعذر إجراء الانتخابات، إلى أن جاء اتفاق الطائف فعيّن النواب العام 1991، لتجرى أول انتخابات بعد الحرب العام 1992 لانتخاب 128 نائباً، مناصفةً بين المسيحيين والمسلمين.فرض النظام السوري أوّل انتخابات على أساس قانون جديد قائم على توزيع الدوائر الانتخابية اعتباطياً لمصلحة قيادات سياسية، بحيث استحدُثت مقاعد لم تكن موجودة، فكانت بيروت دائرة واحدة فيما قسم جبل لبنان 6 دوائر، كما كان في قانون 1960، بناء لطلب النائب وليد جنبلاط، والبقاع 3 دوائر، فيما بقي الجنوب وبيروت والشمال دائرة واحدة.أثارت انتخابات 1992 ردة فعل معارِضة في الشارع المسيحي، بعدما دعت البطريركية المارونية والأحزاب المسيحية الرئيسية إلى مقاطعتها، وعدا عن الأسباب السياسية التي دفعت إلى المقاطعة، كان العيب الأساسي الذي شاب الانتخابات هو القانون الذي أراد السوريون من خلاله الإتيان ببرلمان يوالي السياسة السورية في لبنان ويتوافق مع الطبقة السياسية التي أردات تثبيتها بعد اتفاق الطائف.ومنذ ذلك التاريخ بدأ تَداوُل كلمة «المحادل» لأن توزيع الدوائر وتركيب اللوائح في الشكل الذي تمّ به، أتى إلى المجلس بكتل نيابية متجانسة وفق معايير محددة سلفاً، وبالإضافة إلى المقاطعة التي جاءت بنواب غير ممثلين للفئة المسيحية الواسعة، أسفرت الانتخابات وفق قانون 1992 عن فوز جميع حلفاء سورية في لبنان.وفي العام 1996، عاد المسيحيون عن المقاطعة، أو بعض قياداتهم، في حين استمرت الأحزاب الرئيسية على مقاطعتها، وسط مطالبة الكنيسة والمعارضة المسيحية بقانون عادل ومتوازن، وأعدّت حكومة الرئيس رفيق الحريري، في ظل رئاسة الرئيس إلياس الهرواي، قانوناً خليطاً بين الدوائر الكبرى والصغرى، لكنه قانون مركّب أيضاً على قياس القيادات السياسية التي كانت تحكم لبنان في تلك المرحلة.وقسم قانون 1996 لبنان خمس دوائر انتخابية، أربع منها هي المحافظات الأربع، أي الشمال والبقاع والجنوب وبيروت، في حين أُبقي على جبل لبنان مقسماً ست دوائر أيضاً بناء على طلب جنبلاط.والعام 2000، ارتبط اسم القانون الذي أجريت الانتخابات على أساسه باسم رئيس جهاز الاستخبارات السورية العميد غازي كنعان، فصار يُعرف باسم «قانون غازي كنعان»، وقد قسم القانون لبنان 14 دائرة انتخابية، بيروت 3 دوائر، وجبل لبنان 4 دوائر، والشمال دائرتان والبقاع ثلاث دوائر والجنوب دائرتان. ورفضت بكركي والمعارضة المسيحية أيضاً هذا القانون، الذي فصّل الدوائر بحسب الاتجاهات السياسية في ظلّ تحكّم النظام السوري بالوضع الداخلي، ووفق هذا القانون فاز الرئيس رفيق الحريري بأكثرية برلمانية وعاد إلى ترؤس الحكومة، في عهد الرئيس إميل لحود.في العام 2005 كانت حكومة الرئيس عمر كرامي تعدّ لإجراء الانتخابات على أساس قانون 1960 الذي وافقت عليه بكركي، بعدما وضعته وزارة الداخلية التي كان يترأسها في حينه الوزير سليمان فرنجية، كان هدف الأخير حينها الأخذ برأي بكركي بإعادة التمثيل المسيحي إلى حقيقته وانتخاب المسيحيين ممثليهم الحقيقيين، وليس عبر المحادل والإتيان بنواب لا يمثلون الاتجاهات المسيحية، ذلك أن قانون 1960 قائم على الأقضية حيث يستطيع المسيحيون انتخاب نوابهم بكامل حريتهم، رغم الوجود السوري.وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج السوريين من لبنان، كانت المفاجأة تطيير قانون 1960 وإجراء الانتخابات في موعدها وفق قانون غازي كنعان أي قانون العام 2000، ونجحت قوى 14 مارس التي كانت بدأت تتشكل حينها في الفوز بغالبية برلمانية وتمكّن العماد ميشال عون من الفوز بالغالبية المسيحية.وفي 2009 وبعد اتفاق الدوحة، تَمسّك المسيحيون بالعودة إلى قانون 1960، وقد أُجريت الانتخابات على أساسه، وفازت قوى 14 مارس مجدداً بالأكثرية التي حملت الرئيس سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة.منذ ذلك التاريخ والقوى السياسية تحاول التعامل مع قانون الانتخاب على أساس إعادة تكوين السلطة بحسب مقتضيات المرحلة. لان ما أفرزته انتخابات عاميْ 2005 و2009 أطاحت به الوقائع الميدانية والتطورات الإقليمية. ولم تنجح قوى 14 مارس في أن تحكم لوحدها، بل إن الرئيس سعد الحريري أطاحت به المتغيرات الداخلية ووقائع الانقلاب الذي قاده «حزب الله» عليه في يناير 2011، لكن اليوم وفي ظل الشغور الرئاسي تعيد هذه القوى بحثها من حيث انتهى. فلا عجائب في قوانين الانتخاب، لأن هذا الملف استوفى البحث فيه منذ عشر سنوات، ولم يعد هناك من قانون لم يتم البحث فيه، وفي المحصلة سيكون قانون الانتخاب صورة عن التسوية التي يمكن ان تُكتب للبنان.