رغم هول المجزرة التي ارتكبها تنظيم «داعش» في باريس، لا يبدو أحد في الغرب مستعجلاً أو حتى مستعداً لتجهيز جيوشه، وشن حملة للقضاء على هذا التنظيم، الذي يقتصر وجود قيادته على عدد محدود من المدن القليلة السكان على جانبي الحدود العراقية السورية، يمكن للنزول فيها واحتلالها أن يؤدي إلى القضاء على هذه القيادة أو حتى اعتقالها.بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، اتضح مباشرة أن الرد آتٍ، وأنه مسألة وقت فقط يستلزمها تحضير الجيوش. وسرعان ما انهالت قنابل العشرة أطنان على جبال تورا بورا التي فرّ إليها قادة «القاعدة»، بحيث كانت أصواتها وحدها كافية لأن تجعلهم يفرّون مرة أخرى من تلك الجبال إلى باكستان وإيران وغيرهما.بعد هجمات باريس، سارع المعنيون إلى التأكيد أنهم لن يرسلوا مثل هذه الجيوش، فباراك أوباما كان حاسما في قمة العشرين بأنطاليا حين قال ان إرسال 50 ألف جندي إلى سورية لن يحلّ المشكلة. فرنسا المعنية الأولى بالتفجيرات لا تستطيع وحدها القيام بحملة كهذه، فمثل هذه الحروب تحتاج إلى قيادة أميركية.الغرب يريد القضاء على «داعش» بعد تسوية سياسية في سورية تكون نتيجتها إنهاء حكم الأسد، باعتبار أن وجوده هو الذي وفّر المبرّر لتدفّق الإرهابيين إلى البلاد في المقام الأول، بينما المحور الآخر الذي يضم روسيا وإيران وحلفاءهما يتمسك بالأسد باعتبار انه الوحيد الذي يملك القوة على الأرض التي تستطيع مواجهة التنظيم في سورية، ما دامت لا توجد دولة مستعدة لإرسال جنودها للقيام بالمهمة. و«داعش» يستفيد من المساحة التي يتيحها له الخلاف بين المحورين لتعزيز قوته وإعداد هجماته.السؤال الذي يجب الإجابة عليه لمعرفة حقيقة الموقف الأميركي، هو هل إذا نجح التنظيم في المقبل من الأيام، كما هدّد قبل يومين، وكما لا نتمنى طبعا، في توجيه ضربة على الأراضي الأميركية بقسوة هجمات باريس، سيظل هذا الموقف هو نفسه؟الظاهر أن واشنطن تعتقد أن «داعش» لا يشكّل خطراً كبيراً على الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، وأن خطره يقتصر على العالم القديم، بما فيه أوروبا. وما زال هدفها هو احتواء التنظيم حتى لا ينمو أكثر، ولكن ليس هزيمته تماما، التي يبدو أنها تبقى ورقة أميركية مخبأة إلى حين نضوج تسوية ما تحقق المصالح الأميركية في سورية والعراق، يكون ضمنها الاتفاق على مصير الأسد وشكل الحكم سورية، وأيضا في العراق الذي آلت السيطرة فيه إلى إيران، حتى قبل الانسحاب الأميركي منه.وإلا كيف نفسّر الكلام الأميركي عن أن هزيمة «داعش» مسألة تدريجية تحتاج إلى وقت، ثم في ليلة واحدة بعد تفجيرات باريس يعلن البنتاغون أنه قصف 116 شاحنة نفط لـ «داعش»؟ فما دامت واشنطن تستطيع ان تلحق بالتنظيم مثل هذه الخسائر، فلماذا لا تفعل ذلك كل يوم؟هذه كانت مجرّد تحية أميركية للأصدقاء القدامى في فرنسا، ولا تلغي أن رد الفعل الأميركي على أحداث باريس كان عاديا جدا، ولم يختلف في مضمونه كثيرا عن تعليق واشنطن على تفجيرات برج البراجنة، حتى ان بعض الصحف الأميركية مثل «نيويورك تايمز» ومجلة «التايم» نشرت تحقيقات تساءلت فيها عما اذا كان ضحايا باريس أهم من ضحايا برج البراجنة؟رد الفعل الأميركي يستبطن عدم اكتراث كبير بما يجري في الشرق الأوسط وحتى في أوروبا مع ازدياد الهوس بصعود الصين والذي يستلزم نقل ثقل القوة الأميركية إلى جنوب شرقي آسيا، حتى لا تفلت تلك المنطقة من أيدي واشنطن، وتقع في أحضان بكين، وهو أمر لا تبدو أميركا في وارد العودة عنه، بصرف النظر عن خطورة الأحداث في الشرق الأوسط.يبدو أننا سنظلّ لسنوات أخرى ندور في دوامة الأولويات التي تبلغ حد التناقض بين الروس والأميركيين، رغم تأكيد الطرفين تطابق رؤيتهما لمستقبل سورية، حتى تتوفر ظروف لتسوية ما يتحقق للأميركيين فيها أرباح... لا خسائر.
مقالات
باريس والدوّامة السورية
03:08 م