ها هو فصل الشتاء يطرق الأبواب...وقد بدأت الدنيا تستعد لمقدمه.. متفائلة ببرودته وجمال أيامه ولياليه، متأهبة لمفاجآته وما قد يصاحبه رياح أو أعاصير أو رعد وبرق...كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يفرحون بدخول الشتاء، إذ يجدونه مُعينا لهم على طاعة ربهم، إذ إن فيه من المزايا ما ليس في غيره... فمن ذلك طول ليله، بحيث ينامون فيه بغيتهم، ثم يقومون لمناجاة ربهم وتهجدهم، قد اطمأنت نفوسهم، وأخذت مقدارها من النوم ومن بقاء وقت كاف للتهجد والقيام ومناجاة الحي القيوم.إنه فرصة ثمينة للقيام والتهجد والدعاء والاستغفار والانطراح بين يدي الرحيم الغفار، حيث يتسنى للبدن أن يأخذ حظه الوافي من النوم، ثم يقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيناجي ربه، ويخاطب مولاه، ويتلذذ بكلامه ومناجاته في هدأة الليل وسكونه، حيث وقت التنزل الإلهي، بما يليق بجلاله وكماله، والرب -عز وجل- يقول لعباده: (مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟)فيا حسن عباد الله المؤمنين القائمين وقد أجنهم ليل الشتاء! ما بين قارئ خاشع، وراكع خاضع، وساجد متذلل، وداع متضرع، ومستغفر مخبت، وباكٍ على ذنوبه وآثامه يسأل ربه العفو عن تقصيره وتكفير سيئاته؛ ولهذا كان سلف الأمة الأخيار، يجتهدون في قيام الليل؛ لعظيم الأجر والثواب المترتب على ذلك، وهم يقرؤون قول الله -تعالى-: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) جعلنا الله وإياكم منهم، ولتقدير السلف الصالح لهذه الفرصة العظيمة، بكى الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، فقال من حوله، يا معاذ، يا صاحب رسول صلى الله عليه وسلم: (أتبكي فرقاً من الموت) وذكروا شيئاً من فضائله، فقال: (لا والله لا أبكي فرقاً من الموت، ولكن أبكي لفقداني قيام ليالي الشتاء الطويلة، وصيام الهواجر، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَق الذكر).ومن مزايا هذا الموسم، قصر نهاره وبرودته، مما يعين المسلم على صيامه.قال الإمام ابن رجب رحمه الله: المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام، التي يحسها في أيام الصيف. وقال عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه: «مرحباً بالشتاء تتنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام».نعيش الآن فصل الشتاء وقد أظلتنا أيامه ولياليه... هذه الأيام التي يعيشها المؤمن بين التمني والرجاء...فهو يتمنى دائما أن يصيبه خيره ويرجوالله تعالى أن يقيه ما يحمله.. لذا كان لابد أن يكون لنا مع هذا الفصل وقفات لعلَّ الله عز وجل يفتح لها القلوب:الوقفة الأولى: تأمل وتفكرإنّ أحسن ما اتفقت فيه الأنفس التفكر في آيات الله وعجائب صنعه، والانتقال منها إلى تعلق القلب والهمّة به دون شيء من مخلوقاته. وكم لله من آياته في كل ما يقع الحس عليه، ويبصره العباد، وما لا يبصرونه، تفنى الأعمار دون الإحاطة بها وبجميع تفاصيلها. لكن تأمل هذه الحكمة البالغة في الحر والبرد، وقيام الحيوان والنبات عليهما. وفكر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته. ولو دخل عليه مفاجأة لأضنَّ ذلك بالأبدان وأهلكها، وبالنبات، كما خرج الرجل من حمام مفرط الحرارة إلى مكان مفرط البرودة، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك، فهل من متأمل ومتفكر؟!الوقفة الثانية: آيات الله في الشتاء1 - الصواعق: قال تعالى: {وَيُرسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُم يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ} [الرعد:13]. وقد جاء في سبب نزولها أنّ رجلاً من عظماء الجاهلية جادل في الله تعالى فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيش ربّك الذي تدعوني إليه؟ من حديد هو؟ من نحاس هو؟ من فضة هو؟ من ذهب هو؟ فأرسل الله عليه صاعقة فذهبت بقحف رأسه وأحرقته.2 - الرعد والبرق: عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: «ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله». قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر». قالوا: صدقت. [السلسلة الصحيحة للألباني:1872].3 - المطر والبرد: قال تعالى: {أًلَمَ تَرَ أَنَ اللهَ يُزجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَينَهُ ثُمَّ يَجعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدقَ يَخرُجُ مِن خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنَ يَشَاءُ وَيَصرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرقِهِ يَذهَبُ بِالأَبصَارِ} [النور:43].الوقفة الثالثة: شكوىعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتكت النّار إلى ربّها فقالت: يا رب. أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدون من الحر من سمومها» [رواه البخاري ومسلم].فتذكر شدة زمهرير جهنّم بشدة البرد القارس في الدنيا، وإنّ ربط المشاهد الدنيوية بالآخرة ليزيد المرء إيماناً على إيمانه.يقول أحد الزهاد: «ما رأيت الثلج يتساقط إلاّ تذكرت تطاير الصحف في يوم الحشر والنشر».الوقفة الرابعة: التوحيد في الشتاءيكثر في هذه الأيّام من بعض المسلمين نسبة المطر إلى الأنواء (منازل القمر) وهذه النسبة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:1 - نسبة إيجاد: أي أنّها هي الفاعلة المُنزلة للمطر بنفسها دون الله وهذا شرك أكبر مخرج من الملة الإسلامية.2 - نسبة سبب: أي أن يجعل هذه الأنواء سبباً مع اعتقاده أنّ الله هو الخالق الفاعل، وهذا شرك أصغر؛ لأنّ كل من جعل سبباً لم يجعله الله سبباً لا بوحيه ولا بقدره فهو مشرك شركاً أصغر.3 - نسبة وقت: وهذه جائزة بأن يريد بقوله: مطرنا بنوء كذا، أي جاءنا المطر في هذا النوع أي في وقته، لهذا قال العلماء: «يحرم أن يقول مطرنا بنوء كذا، ويجوز مطرنا في نوء كذا». والأفضل من هذا أن يقول العبد كما جاء في الحديث: «مطرنا بفضل الله ورحمته».الوقفة الخامسة: الشتاء وعمر الإنسانبإدراكنا هذا الشتاء يكون قد مضى وانصرم من أعمارنا عاما كامل سيكون شاهداً لنا أو شاهداً علينا. والمؤمن يقف مع نفسه وقفة صادقة ويقول لها: إنّما هي ثلاثة أيّام. قد مضى أمسٌ بما فيه. وغداً أملٌ لعلك لا تدركه. إنّك إن كنت من أهل غد فإنّ غداً يجيء برزقه.ثمّ قد حملت على قلبك الضعيف همّ السنين والأزمة، وهمَّ الغلاء والرخص وهمَّ الشتاء قبل أن يجيء الشتاء، وهمَّ الصيف قبل أن يجيء الصيف فماذا أبقيت من قلبك الضعيف لآخرته؟ كل يوم ينقص من أجلك وأنت لا تحزن.الوقفة السادسة: الجسد الواحدإنّ هذا الفصل نعيشه ويعيشه معنا أناس يستقبلون قبلتنا، ويصلون صلاتنا، ويحجون حجنا فلهم حق. إنّ هذا الفصل وما يمر علينا فيه من الشدائد هنا وهنا فقط، لابد وأن نستشعر جميعاً أنّ هناك من هو أحوج بالرأفة والمساعدة منّا، لابد أن نتذكر أولئك الذين لامس بل اخترق بردُ الزمهرير عظامهم. إنّ هناك مسلمون لا يحلم بل لا يتصور أحدهم وإن شئت فقل لا يتوقع في الحسبان أن يصل إليه ثوب قد جعلته أنت ممّا فضل من ثيابك وملابسك.قل لي بربّك كم يملك أحدنا من ثوب؟ وكم يُفصِّل أحدنا من ثوب؟ وكم.. وكم.. وكم..؟ خير كثير كثير. ونِعَمٌ لا تحصى.. ولكن أين العمل؟ إلى الله المشتكى فلا تحقرن صغيرة إنّ الجبال من الحصى. فهيا أخي امضِ وتصدق ولو بشيء يسير، فربّما يكون في نظرك حقير وعند ذلك الفقير المحتاج كبير وعظيم.الوقفة السابعة: من أحكام الصلاة في الشتاء1 - الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما سنة إذا وجد سببه وهي المشقة في الشتاء، من مطر أو وحلٍ أو ريح شديدة باردة، وهي رخصة من الله عز وجل والله يحب أن تؤتى رخصه. وتفصيل أحكام الجمع مبسوطة في المطولات.2 - الصلاة على الراحلة أو في السيارة: جائزة خشية الضرر إذا خاف الضرر وإذا خاف خروج وقتها وهي ممّا لا يجمع مع غيرها في الشتاء.قال ابن قدامة في المغني: «وإن تضرر في السجود وخاف من تلوث يديه وثيابه بالطين والبلل فله الصلاة على دابته ويؤمئ بالسجود».الوقفة الثامنة: الدعاء في الشتاء1 - عند رؤية الريح: ((اللّهم إنّي أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به)).2 - عند رؤية السحاب: ((اللّهم إنّي أعوذ بك من شرها)).3 - عند رؤية المطر: ((اللّهم صيباً هيئاً)) أو ((اللّهم صيباً نافعاً)) أو ((رحمة)) ويستحب للعبد أن يكثر من الدعاء عند نزول المطر لأنّه من المواطن التي تطلب إجابة الدعاء عنده، كما في الحديث الذي حسنه الألباني في الصحيح [1469].4 - إذا كثر المطر وخيف منه الضرر: قال: ((اللّهم حوالينا ولا علينا، اللّهم على الآكام والظرب وبطون الأودية ومنابت الشجر)).فائدة: يستحب للمؤمن عند أول المطر أن يكشف عن شيء من بدنه حتى يصيبه (لأنّه حديث عهد بربّه) هكذا فعل النبي وعلل له.الوقفة التاسعة: النّار في الشتاءينبغي للمؤمن أن يحذر في الشتاء وغيره من إبقاء المدافىء بأنواعها مشتعلة حالة النوم لما في ذلك من خطر الاحتراق، أو الاختناق. جاء في البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ هذه النّار إنّما هي عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم» وفي رواية: «لا تتركوا النّار في بيوتكم حين تنامون» والسلامة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.الوقفة العاشرة: فرح السلف بالشتاءقال عمر رضي الله عنه: «الشتاء غنيمة العابدين».وقال الحسن: «نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه». ولذا بكى المجتهدون على التفريط - إن فرطوا - في ليالي الشتاء بعدم القيام، وفي نهاره بعدم الصيام.ورحم الله معضداً حيث قال: «لولا ثلاث: ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله ما باليت أن أكون يعسوباً».هذا خبر من قبلنا، أمّا خبر أهل زماننا فنسأل الله أن يصلح الأحوال؛ تضييع للفرائض والواجبات، واجتراء على حدود ربّ الأرض والسموات، وسهرٍ على ما يغضب الله، ويظلم القلب، ويطفىء نور الإيمان.جدّوا في طلب مرضاة الرحمن في ليالي الشتاء الطوال وفي غيرها.. وأكثروا من صيام نهاره. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة»، إيه وربّي إنّها لغنيمة فأين المشمرون المخلصون؟!
متفرقات - إسلاميات
تتنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للتهجد والاستغفار ويقصر النهار للصيام
الشتاء... غنيمةُ العابدين وربيع المؤمنين
08:20 ص