قفزت علاقة الكرسي الرسولي بلبنان ورؤيتها للقادة المسيحيين وتأثيرهم على دور الكنيسة المارونية، إلى الواجهة السياسية في ضوء ما تردّد عن «تقرير أسود» أثار التباسات عدة في الأوساط المسيحية واستند مضمونه المتشائم كما تمّ تداوله إلى زيارة قام بها وزير خارجية الفاتيكان السابق الكاردينال دومينيك مومبرتي لبيروت.وجاءت تصريحات المطران سمير مظلوم، الذي كان يدافع عن دور بكركي في إطار تفنيده للتقرير وزيارة الموفد الفاتيكاني، وقوله «إننا نضحي برئاسة الجمهورية شرط أن تُحل القضايا الأخرى وأن تبنى الجمهورية على أسس صحيحة» لتثير بلبلة أيضاً، لان مظلوم تحدث باسم الكنيسة، في غياب البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي كان موجوداً في الفاتيكان. علماً أن رأس الكنيسة المارونية التقى أخيراً الرئيس الإيطالي واكدا معاً أهمية انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان.وقيل إن «التقرير الأسود» الذي أشيع أن مومبرتي وضعه تضمّن إشارة إلى «تغييب دور بكركي وإضعافها على مستوى القرار الوطني المسيحي أمام تقدم واضح للقادة الموارنة الذين يتخطونها بسبب غياب الموقف والرؤية والحزم وانحلال العصب المسيحي لدى الزعماء الموزّعي الولاء بين المكوّنيْن الطائفيين السني والشيعي وبين المحاور الإقليمية الممثلة بسورية وإيران والسعودية، مما أفقد المسيحيين دورهم الفاعل وحضورهم المميز على المستوى الوطني العام»، داعياً إلى «تدعيم وضع الكنيسة المارونية لجهة استعادة دورها وتأثيرها في الشارع المسيحي والقادة السياسيين من خلال تفعيل هذا الدور والعمل السريع على انتخاب رئيس ماروني من نبض الشارع (...)».إلا أنه وفق معلومات كنسية فإن الكاردينال مومبرتي الذي زار لبنان بين شهري مايو ويونيو الماضيين لم يكن موفداً بابوياً، فهو رُفع إلى رتبة كاردينال وعُين رئيساً لمحكمة التوقيع العليا في الفاتيكان، ولم يعد يتولى مهمات يدخل في صلاحياتها إعداد تقارير مماثلة. وهو يعرف لبنان بعدما عمل فيه ديبلوماسياً في السفارة البابوية لمدة ثلاث سنوات بين 1996 و1999، وكان وزير خارجية الفاتيكان. إذ شغل منصب أمين سرّ قطاع العلاقات مع الدول في أمانة سرّ الكرسي الرسولي، وتابع الأزمة اللبنانية ووضع مسيحيي لبنان والشرق انطلاقاً من عمله هذا.لكن بعد تسلم البابا فرنسيس السدة البابوية، وفي إطار حملة إصلاح وتطهير داخل الكرسي الرسولي أُسندت إلى مومبرتي مهمات في محكمة الفاتكيان وأُعفي من منصبه الذي تولاه الكاردينال جيوفاني لاجولو ومن ثم سلّمه البابا إلى الأسقف البريطاني بول ريشارد غالاغر الذي يتولى تلقائياً العلاقة مع السفارة البابوية في بيروت ويشرف على أعمالها والتقارير التي تعدّها في شأن لبنان. إلا أن مومبرتي وبحكم موقعه السابق حافظ على علاقات جيدة مع كنائس لبنان التابعة للكرسي الرسولي، وتربطه علاقة جيدة مع الراعي ومع عدد من مطارنة لبنان. وعلى هذا الأساس كانت زيارته الأخيرة التي كانت أشبه بزيارة خاصة، ولم يكن مكلفاً أي مهمة رسمية ولا إعداد تقارير عن لبنان وهو لا يملك أي تأثير في دوائر البابا الحالي الذي أبعده عن حلقة المقربين منه. ومن هنا فإن لا صلاحية لمومبرتي بإعداد تقارير عن الوضع اللبناني ولا عن علاقة القادة المسيحيين ببكركي، لأن ذلك من مهمة السفارة البابوية.كل تلك الضجة لا تلغي أن الاهتمام الفائق بالتقرير المزعوم، مردّه إلى أن الكنيسة المارونية والقادة الموارنة يعوّلون كثيراً على اهتمام الفاتيكان بلبنان، وخصوصاً منذ بداية الحرب الأهلية (1975) وتَحوُّل الفاتيكان صوتاً دولياً يدافع عن حقوق ليس المسيحيين فحسب بل عن حقوق اللبنانيين جميعهم في العيش بسلام ووقف الحرب. ولم يُعرف يوماً أن الفاتيكان عمل لمصلحة فئة من دون أخرى، أو عمل من أجل المسيحيين وحدهم. علماً أن البابا فرنسيس عمل خلال زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركي ولقائه الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الحديث عن لبنان وطالب باهتمام أميركي به وبإجراء انتخابات رئاسية فيه وعودة الحياة السياسية الطبيعية إليه.تربط الفاتيكان بلبنان علاقات وطيدة، سواء على المستوى الرسمي بفعل وجود سفارة بابوية فيه وتَبادُل علاقات ديبلوماسية بين الدولتين، علماً أن السفير البابوي في لبنان هو عميد السلك الديبلوماسي، أو بفعل ارتباط الكنائس المسيحية التي تتبع التقويم الغربي بالبابا. وتشكل الكنيسة المارونية بين هذه الكنائس العصَب الأساسي كونها تضمّ أكبر عدد من سكان لبنان المسيحيين، وثانياً لأن الكنيسة المارونية بنت منذ عقود علاقات وثيقة دينياً وثقافياً وحضارياً مع روما.وبفعل السلطة الفاتيكانية على كنيسة لبنان المارونية، كان لا بد تتوطد العلاقات بين الطرفين ومع لبنان الرسمي ولا سيما لجهة ان الرئيس اللبناني هو الرئيس المسيحي الماروني الوحيد في منطقة الشرق الاوسط. ولذا كان لا بد أن يبرز اهتمام الفاتيكان قبل الحرب عبر علاقات وطيدة مع الدولة ومع البطاركة المتعاقبين على كرسي بكركي. وما أن اندلعت الحرب العام 1975 وبدء أعمال القصف ومراحل التهجير والتقسيم والفرز الطائفي، حتى ترجم الفاتيكان رعايته للبنان في شكل أوسع وأشمل عن طريق المناداة شبه الاسبوعية للبابا بوقف الحرب فيه.ومع بدء مراحل تهجير المسيحيين داخل وطنهم واشتعال الجبهات، أوفد البابا يوحنا بولس الثاني الذي صودف أن تولى مهماته بعد ثلاث سنوات على اندلاع الحرب، أكثر من مرة موفدين بابويين إلى لبنان، ولا سيما بعدما ربطته علاقة جيدة مع البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، الذي كان يتولى التعبير عن هموم اللبنانيين ومخاوفهم وقلقهم على مصيرهم. وأبرز الموفدين في تلك المرحلة كان الكاردينال روجيه اتشيغاري، الذي تفقد القرى المهجرة ولا سيما جزين التي كانت قد بدأت تجمع الكثير من أبناء الجبل بعد التهجير الذي لحق بهم بدءاً من الاجتياح الإسرائيلي وحرب الجبل عام 1982 والقرى الحدودية، وكانت تعيش تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي. بعد تلك الزيارة عيّن البابا موفداً خاصاً إلى جزين هو المونسنيور سيليستينو بوهيغاز الذي استمر في مهمته بين 1985 و1990 أي حتى نهاية الحرب اللبنانية وإعلان اتفاق الطائف.لكن اهتمام الكرسي الرسولي بلبنان، لم يقتصر على مهمات موفديه، وعلى التعامل فقط مع مسيحيي لبنان، فإضافة إلى رسائل الدعم المتتالية التي كان يوجهها البابا، حضّ المجتمع الدولي على مساعدة لبنان عبر لقاءاته مع رؤساء الدول الكبرى والمعنية بإيجاد حلول لأزمة لبنان ووقف الحرب فيه.ومما لا شك فيه فإن وجود البطريرك صفير على رأس الكنيسة المارونية في الفترة نفسها التي كان البابا يوحنا بولس الثاني على كرسي روما، ساهم في اهتمام الفاتيكان أكثر بلبنان، ولا سيما ان صفير كان يرفع حينها لواء محاربة الاحتلال الإسرائيلي والوجود السوري في لبنان منادياً بخروج جميع الجيوش الغريبة عن أرض لبنان. علماً أن يوحنا بولس الثاني عُرف بمحاربته للشيوعية وللاحتلال السوفياتي لبلاده بولندا، وهو الأمر الذي جعله أكثر تفهماً لمعاناة البطريركية المارونية، وخصوصاً في مرحلة التسعينات من القرن الماضي التي شهدت إحكام القبضة السورية على لبنان وسوء تطبيق اتفاق الطائف. ففي أحد اللقاءات التي جمعت صفير مع البابا العام 1994 (كتاب البطريرك السادس والسبعون - أنطوان سعد) سأل البابا البطريرك الماروني عن الوضع اللبناني فأجابه: «هناك أزمة اقتصادية وسياسية ولا استقلال ولا سيادة ولا قرار حر وهناك سلطات ومؤسسات غير فاعلة».رفع صفير مذكرة إلى البابا حول الوضع الداخلي وكان يشرح باستمرار إلى مسؤولي الفاتيكان الأعباء التي يعيشها اللبنانيون ولا سيما في ظل أزمة المهجرين وتَفاقُم قضية الهجرة، إضافة إلى قضية المسيحيين بعد نفي العماد ميشال عون وسجن الدكتور سمير جعجع وملاحقة الشباب اللبنانيين. وتدريجياً استحوذت القضية اللبنانية على اهتمام البابا، الذي حاول إعلاء شأنها الى أرفع المراتب العالمية والتعامل مع لبنان على قاعدة الاهتمام بالعيش المشترك كنموذج أساسي يجب التركيز عليه وحمايته.وأطلق البابا يوحنا بولس الثاني السينودوس الخاص بلبنان، وهي أول خطوة من نوعها على الصعيد الكنسي التي ترجمت هذه الرعاية. وبعيداً عن التجاذبات وبعض الخلافات التي سادت أجواء التحضير للسينودوس، فقد شهدت الفترة الممتدة بين 1993 و1995 تفعيلاً للاجتماعات في لبنان تحضيراً للسينودوس الذي اتخذ أبعاداً استثنائية في لبنان والدول المعنية بقضية لبنان. وفي 15 أغسطس أعلن البابا افتتاح أعمال السينودوس من 26 نوفمبر إلى 14 ديسمبر من العام نفسه. وعُقد السينودوس وتُوج بنداء طالب بالسيادة اللبنانية ورفض الوصاية وجلاء القوات السورية من لبنان. وقوبل النداء في لبنان بحملة قوية من مؤيدي سورية وحلفائها المحليين. لكن النداء كان جزءاً من مسار طويل على طريق التحضير للإرشاد الرسولي الخاص بلبنان، الذي كان يعتزم البابا الراحل إصداره من لبنان.وشكلت الزيارة البابوية قمة الاهتمام بلبنان. ورغم الخشية من تكريس الزيارة واقع الوصاية السورية على لبنان، إلا أن البابا حرص على القيام بها، ورسم خطوطها العريضة بالتنسيق مع صفير. وفي مايو 1997 تمت الزيارة البابوية الأولى للبنان، والتي شكلت بالنسبة الى مسيحيي لبنان بارقة أمل بالانتهاء من عهد الوصاية السورية، وأعطت إلى اللبنانيين إشارة قوية عن حرص البابا على العلاقات مع جميع الطوائف اللبنانية وحرصه على اللقاء مع كافة القيادات الروحية، علماً أن ممثلين عن الطوائف الإسلامية شاركوا في السينودوس. ومن أجل ذلك كرّس البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته مفهوم العيش المشترك في«لبنان وطن الرسالة» بمفهومه الحقيقي وليس بمجرّد شعار إعلامي فحسب.بين المراحل السياسية، حرص الفاتيكان أكثر من مرة على الاهتمام بلبنان وكنائسه في صورة لافتة، فعمد إلى إعلان قداسة الطوباوية رفقا والراهب نعمة الله الحرديني والراهب يعقوب الكبوشي. ولم تكن هذه خطوات كنسية بحتة، إنما أيضاً عبّرت عن حرص الفاتيكان على إبقاء عينه الساهرة على مسيحيي لبنان وكنائسه، وعلى إبراز دور لبنان الديني وحرصه على التعامل معه كرسالة دينية وحضارية. من هنا عمل الفاتيكان في ظل البابا بنديكتوس السادس عشر على سابقة تمثّلت بإعلان تطويب الكبوشي من بيروت العام 2008 - وكانت تلك المرة هي الأولى التي يتم الإعلان عن تطويب راهب خارج الفاتيكان - وجرى إرسال رئيس مجمع دعاوى القديسين الكاردينال خوسيه سارايفا مارتينس لترؤس الاحتفال. وحرص أيضاً على رفع تمثال القديس مارون مؤسس الكنيسة المارونية، في ساحة الفاتيكان في فبراير من العام 2011.ومنذ عام 1997 وحتى الزيارة البابوية الثانية التي قام بها البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان عام 2012، تبدلت الظروف اللبنانية الداخلية بعد خروج الجيش السوري من لبنان، لكن استمرار أعمال العنف والتفجيرات المتلاحقة وتَصاعُد أزمات الشرق الأوسط وتأثيراتها على لبنان، حملت البابا مجدداً إلى بيروت. وفي ظل الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط، وبدء تصاعد موجة التطرف الديني وهجرة المسيحيين من العراق وسورية، عُقد السينودوس الخاص بالشرق الأوسط. لكن البابا أعطى لبنان لفتة مميزة من خلال الإعلان عن زيارته له.ورغم أن الظروف تغيّرت لكن عناوين الرسالة البابوية لم تتغير. وجاء البابا بنيدكتوس حاملاً الإرشاد السولي للسينودوس من أجل الشرق الاوسط، عاكساً استمرار اهتمام بابوي متصاعد بالقضية اللبنانية عبّر عنه البابا نفسه بقوله «ان التوازن اللبناني الشهير، والراغب دائماً ان يكون حقيقة واقعية، سيتمكن من الاستمرار فقط بفضل الارادة الحسنة والتزام اللبنانيين جميعاً. آنذاك فحسب، سيكون نموذجاً لكل سكان المنطقة، وللعالم بأسره».ومع تَفاقُم الأزمة السياسية الحالية في لبنان، تتعامل السفارة البابوية مع الأحداث الداخلية وارتباطها بما يجري في الدول المجاورة، من موقع العارف بارتباط مشكلة لبنان مع تسوية الشرق الاوسط. وتعرف دوائر الفاتيكان ذلك، لكنها لم توافر جهداً من أجل إبقاء القضية اللبنانية حية، وعدم إهمالها. ومن الطبيعي بعد التجاذبات المسيحية واللبنانية حول دور البطريرك الراعي والالتباسات التي تثيرها حركته وتصريحاته المتناقضة وعلاقاته المتأرجحة مع القادة المسيحيين، ان تتكاثر الاسئلة حول الدور الفاتيكاني ومدى تأثيره الحالي على الواقع المسيحي واللبناني الداخلي، ومدى تاثير الفاتيكان على الدول المعنية لإنقاذ الوضع اللبناني.كل مَن يعرف دوائر الفاتيكان حالياً من روما وخارجها، يدرك تماماً ان الورشة الاصلاحية داخل الكنيسة تتفاعل وتتقدم، من دون التخلي عن اهتمام البابا بلبنان (وبغيره ايضاً). لكن الفاتيكان واقعي ايضاً، فهو يتمسك ببقاء لبنان واستقلاله وحريته، لكنه يعرف في الوقت نفسه ان ثمة أثقالاً اقليمية ودولية وتشابُكات تفرض نفسها. لذا تحرص دوائره على متانة علاقتها مع واشنطن وفرنسا تحديداً وإبقاء القنوات الديبلوماسية مفتوحة مع الدول ذات التأثير المباشر وتمرير المرحلة الاقليمية الخطرة بأقلّ الأضرار الممكنة على لبنان، من دون ان تنفي دوائر الفاتيكان ايضاً مسؤولية اللبنانيين أنفسهم في حماية بلدهم بالحد الأدنى.