حينما يقاتل الفلسطيني بالأسلحة الرشاشة والصواريخ، أو يقاوم بالحجر والسكين والدهس، مثلما يجري الآن في الضفة الغربية، وخصوصا في القدس، فهو يمارس الحق المشروع لأي شعب تحت الاحتلال في مقاومة محتله.لكن مقاومة الفلسطينيين، كما أي مقاومة أخرى، لها شروط لتحقّق أهدافها وتخفّض كلفتها، قد تحتّم تفضيل سلاح على آخر في مرحلة معينة من عمر هذا الصراع الطويل.فعندما أُخرجت منظمة التحرير من بيروت إلى تونس في العام 1982، كان ذلك إيذاناً بانتهاء عصر المقاومة الفلسطينية من الخارج إلى الداخل، فنام «الكفاح المسلح» خمس سنوات عجافاً، إلى ان جاءت الانتفاضة الأولى في العام 1987، فخسرت إسرائيل على المستوى المادي المباشر، وعلى مستوى إظهار صورتها الملطّخة أمام الرأي العام في الدول الغربية التي تدعمها، أكثر بكثير مما خسرت من عمليات رمي صواريخ غير دقيقة على مدنها ومستوطناتها، أو من عمليات التسلل من خارج فلسطين إلى داخلها، أو طبعا من عمليات خطف الطائرات والسفن والرهائن التي لم تخسر منها شيئا، بل حققت ربحا صافيا.بعد اتفاق أوسلو، عادت المقاومة الفلسطينية إلى الداخل، لكن هذا الاتفاق لم يكن جيدا للفلسطينيين، لأنه جعل الأراضي الفلسطينية المستعادة في الضفة الغربية، مثل الجبنة السويسرية، معزولة عن بعضها البعض بالمستوطنات والحواجز والمعسكرات الإسرائيلية. وكان هذا الاتفاق بشكل ما ثمرة مزيج من ضغط الانتفاضة على إسرائيل والعالم من جهة، واستفراد إسرائيل بالمفاوض الفلسطيني برعاية غربية من جهة ثانية، نتيجة عزل القيادة الفلسطينية نفسها عن القوى العربية الرئيسية، التي كانت قد توحدت في تلك الفترة ضد غزو صدام للكويت، فيما هي اتخذت الخيار البائس بتأييد صدام. ألم تكن هذه القيادة لتحصل على اتفاق أفضل لو أنها كانت متصالحة مع تلك القوى العربية الرئيسية؟ وللمقارنة فإن دمشق نالت سيطرة تامة على لبنان، كجائزة ترضية على مشاركتها في التحالف الذي طرد صدام من الكويت.الانتفاضة الثانية، في العالم 2000، التي أثارها اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون المسجد الأقصى، كانت أقل حظاً من الأولى، لأن الفلسطينيين، بمن فيهم عناصر الشرطة، استخدموا السلاح بكثافة خلالها، ما أتاح للدول الغربية المؤيدة لإسرائيل ان تقدّم المواجهة على أنها حرب بين طرفين مسلحين، ولو كان السلاح الإسرائيلي طائرات متطورة وصواريخ دقيقة وعالية القدرة التدميرية، فيما السلاح الفلسطيني بندقية و«آر بي جي» أو على الأكثر صواريخ قليلة الفاعلية.اليوم تشهد فلسطين ما بدأ البعض يطلق عليه اسم «الانتفاضة الثالثة»، تقوم على طعن أو دهس الجنود والمستوطنين في القدس ومدن الضفة الغربية ومستوطناتها.هذه الانتفاضة اذا قُدر لها ان تستمر، وصحّت التسمية عليها، ستمرّغ وجه إسرائيل بالتراب، وقد ظهرت بالفعل علامات الإرباك عليها، وملامح الاستنفار في العالم الغربي الذي يثير العنف الاسرائيلي المفرط في وجه كفاح فلسطيني لا يملك الكثير من الحيلة، حساسية كبيرة لدى رأيه العام، شاهدناها بحملات المقاطعة الأوروبية وحتى الأميركية لإسرائيل والتي تزايدت كثيرا في السنوات القليلة الماضية.هذه ليست دعوة للفلسطينيين لترك السلاح، واعتماد الحجر أو السكين. فلطالما كان الفلسطينيون يختارون شكل نضالهم، والعرب يسيرون خلفهم، حتى لو كان للخيارات الفلسطينية أثمان باهظة على البلدان المضيفة للفلسطينيين، كما كان الحال في لبنان مثلا.لكن بعد نجاح اللبنانيين في تحرير الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الاسرائيلي في العام 2000، استهوى هذا الأسلوب الفلسطينيين، الذين أرادوا نقله بحرفيته إلى الأرضي الفلسطينية، لكن التجربة أظهرت ان الحروب الإسرائيلية الفلسطينية، تختلف عن الحروب الإسرائيلية اللبنانية، في الكلفة والنتيجة على السواء، وكان ذلك جليا في حرب غزة الأخيرة التي دُمّر خلالها القطاع وسقط آلاف الضحايا الفلسطينيين، في مقابل مقتل بضع عشرات من الجنود الإسرائيليين وإصابات محدودة بين سكان المدن الإسرائيلية.أما لماذا في فلسطين تنجح الانتفاضات أكثر من الحروب، فلأن الانتفاضة يقوم بها الشعب الفلسطيني نفسه، وليس فصائله المقاتلة التي انحرف العديد منها عن قضية التحرير على مدى سنين الصراع، ليسلك طرقا أخرى إلى فلسطين، مثل طريق جونية اللبنانية، أو طريق العمل بالوكالة عن هذا النظام العربي أو ذاك بعيدا عن فلسطين، وإنما باسمها.المقاومة الفلسطينية الأفعل، هي من داخل الأراضي الخاضعة للاحتلال... ومن القدس تحديدا في هذه الأيام.
مقالات
سكّين في القدس... أم صاروخ في غزة؟
11:57 م