على وقع المواجهة الشرسة التي حصلت مساء اول من امس بين القوى الأمنية اللبنانية ومتظاهرين من الحراك المدني في وسط بيروت، بدا المشهد الداخلي موغلاً في التعقيدات المختلفة التي زادها غموضاً مصيرٌ مسدود لمحاولات إحلال تسويات سياسية جزئية باءت بالإخفاق.ذلك ان أوساطاً لبنانية واسعة الاطلاع لم تكتم عبر «الراي» رؤيتها المتشائمة حيال التطورات السياسية المقبلة، في ظل عودة لبنان الى مربّع حرب الرهانات المتناقضة على تطورات إقليمية يتصدّرها حالياً التدخل الروسي في سورية وما يثيره في الجانب اللبناني من تفاعلات علنية او مضمرة.ورأت هذه الأوساط ان نتائج الجولة الأخيرة من الحوار الذي انعقد في مجلس النواب أثبتت مرة جديدة عقم أيّ رهانٍ على تحييدٍ داخلي للأزمات الكبيرة اللبنانية، عن الارتباطات الاقليمية وخصوصاً لبعض القوى التي تعطّل عمل المؤسسات الدستورية كسبيل الى فرض شروطها غير القابلة للتحقق.وقالت الأوساط عيْنها ان الحصيلة الحقيقية لهذا الحوار الذي رُفع الى 26 و27 و 28 الجاري لم تكن أكثر من «رياضة علاقات عامة سياسية» بين الأفرقاء الداخليين جرت على هامشها محاولة إحداث ثقبٍ سياسي من خلال تفعيل الحكومة وتسوية احدى التعقيدات المتصلة بزعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، ولكن الأمرين أخفقا، فلا التسوية التي طُرحت للترقيات العسكرية بما يوفّر التمديد لخدمة العميد شامل روكز (صهر عون) رأت النور، ولا الحكومة تبدو في طور التفعيل.وأعربت الاوساط عن مخاوف جدية من إمكان عدم تَجدُّد جلسات الحوار، بعدما أثارت حصيلة الجولة الأخيرة التي اختُصرت الى يومين بدل ثلاث، مواقف أشدّ سلبية من السابق لدى عدد من الأفرقاء الاساسيين المعنيين. فالعماد عون يتّجه نحو تصعيدٍ كبير في مواقفه خلال الاعتصام الحاشد الذي يجري الإعداد له غداً على طريق القصر الجمهوري في بعبدا إحياءً لذكرى الاطاحة العسكرية بحكومة عون الانتقالية العسكرية في 13 اكتوبر 1990، وذلك رداً على سقوط كل محاولات التسوية التي تتصل بالملف الرئاسي او بالترقيات التي لم تحصل، وصولاً الى تعيين قائد الجبش العماد جان قهوجي العقيد الركن مارون القبياتي قائداً لفج المغاوير خلفاً لروكز الذي يخرج الى الحياة المدنية منتصف ليل الثلاثاء المقبل.كما ان الجديد الآخر في تَبادُل المبارزات بالتصعيد يتمثّل في ان قوى 14 آذار مجتمعةً، تتجه الى تبني قرارٍ بمقاطعة الحوار في حال استمرّ تعطيل جلسات مجلس الوزراء ولم تنعقد اي جلسة قبل الموعد المحدّد للجولة المقبلة من الحوار في 26 الجاري.وتعتبر الأوساط نفسها ان دائرة التصعيد تبدو مفتوحة على مزيد من «جرعات» التشنج في ظل احتدام السجالات الحادة بين تيار «المستقبل» الذي يقوده الرئيس سعد الحريري و«حزب الله» أخيراً، على خلفية الحملة الشعواء التي شنّها الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله على المملكة العربية السعودية والتي ردّ عليها بعنف الرئيس الحريري ثم كتلته النيابية.وتقول الأوساط ان أكثر ما يثير الخشية حقاً هو تعطيل الحكومة تعطيلاً شاملاً، كما ان المجلس النيابي الذي تبدأ دورته العادية في 20 اكتوبر الجاري لن يكون بحال أفضل، اذ سيتعذّر على رئاسة البرلمان إقناع القوى السياسية بانعقاد جلسات تشريعية في هذه الدورة أسوة بفشل محاولاتها عقد جلسات لتشريع الضرورة سابقاً، الأمر الذي يعني ان البلاد مقبلة على ترسيخ معادلة العضّ على الأصابع مع كل ما يرافق ذلك من تَفاقُم متسع في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بدليل العجز الغريب عن الشروع في تنفيذ خطة جرى التوافق عليها ظاهرياً لحلّ أزمة النفايات ولا تزال عصية على التنفيذ بل انها تشكّل عصَب الحراك المدني الذي يواصل تحركه في الشارع وسط مخاوف من ان تتحوّل الاحتجاجات التي انزلقت الى مواجهات هي الأشرس بين المعتصمين والقوى الامنية ليل الخميس، «بقعة زيت» يتداخل فيها السياسي بالأمني والمطلبي.واستفاقت بيروت على تأثير المشاهد الصادمة التي ارتسمت في وسط العاصمة نتيجة «حرب الساعات الستّ» بين المتظاهرين الذين كانوا يحتجون بدايةً على استمرار أزمة النفايات. الا ان هذا التحرك سرعان ما انزلق بعيد بدئه، اي قرابة السابعة من مساء أول من أمس الى معارك بالحجارة والمفرقعات وخراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع بين المتظاهرين والقوى الأمنية، في لوحة عنفية بدت متعمّدة من بعض الحراك الذي كان على كامل الجهوزية لقصّ الأسلاك الشائكة وتجاوُز مكعبات الاسمنت التي وُضعت قبالة ساحة «الشهداء»، مطلقاً مواقف أصرّت على كسْر الطوق الأمني لدخول «ساحة النجمة» حيث مقر البرلمان «غير الشرعي والممدِّد لنفسه» كما يقول المحتجون.وجاء استخدام المتظاهرين الوسائل العنفية من رشق للقوى الامنية بالحجارة والمفرقعات وصولاً الى محاولة اقتحام فندق «لو غراي» من جانب مشاغبين بعد كسْر باب مدخله وتحطيم كاميرات المراقبة التابعة للفندق وإحدى ماكينات الصراف الآلي اضافة الى تكسير إشارات سير، ليشكّل إشارة سلبية عزّزت المخاوف من إمكان ان يكون انحراف هذه الاحتجاجات مادة استثمار في لحظة «الأفق المسدود» السياسي.وقد شهد وسط بيروت امس عملية لملمة للأضرار الكبيرة التي أصابته والتي تفقّدها كل من وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي واجه انتقادات قاسية من المتظاهرين دعته الى الاستقالة، ومن المدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء ابرهيم بصبوص.وفي موازاة ذلك، كانت مجموعات الحِراك المدني تنفذ اعتصامات امام المحكمة العسكرية وقصر العدل للضغط في اتجاه الإفراج عن نحو 70 شخصاً تم اعتقالهم ليل أول من أمس على خلفية المواجهات التي بدت أشبه بـ «انتفاضة حجارة»، والتي كان لافتاً إصرار منظّمي الحِراك على المضي فيها حتى قرابة الواحدة من بعد منتصف الليل، لينجلي الموقف عن ما لا يقل عن 35 جريحاً من المتظاهرين اصيب غالبيتهم بحالات اختناق خلال عمليات الكر والفرّ، في حين سقط من عناصر قوى الأمن الداخلي 50 إصابة، ومنهم ضابط تردّد ان حالته حرجة، إلاَّ ان وضعه الصحي أصبح مستقراً بحسب بيان لقوى الأمن تحدث عن ارتكابات «بعض المشاغبين».