رحل عن عالمنا مؤخرًا المخرج السينمائي المتميز رأفت الميهي، ولأنه ما أكثر من رحلوا عن عالمنا، فقد مَرّ رحيله مرور الكرام. وجاءت الأحداث تطرد كل واحدة الحدث الآخر، لدرجة أننا أوشكنا أن ننسى رحيله ورحيل غيره من الأحبّة.مع أن رحيل الإنسان عن الدنيا يبقى الحدث الذي لا يقل أهمية عن مجيئه لهذا العالم. فمعذرة أن جاءت هذه الكلمات متأخرة. وإن كان العذر أن سبقني أصدقاء للكتابة عن رأفت الميهي في الصحافة المصرية، فأوفوا ببعض ما يستحقه هذا الرجل في أعناقنا جميعا.كتب الناقد السينمائي الموسوعي والمهم سمير فريد، عن رأفت الميهي، معلومات كانت مدهشة بالنسبة لي، لأنه رغم صداقتي مع رأفت ومتابعتي له، فوجئت بمعلومات جديدة ما كنت أتصور وجودها من قبل.كتب سمير:- ليس معروفًا على نطاق واسع، أن رأفت الميهي «1940 ـ 2015» كان يريد أن يكون شاعرا وكاتبا للقصة والرواية، ولذلك التحق بقسم اللغة الإنكليزية في كلية الآداب جامعة القاهرة، حيث تخرّج العام 1960، ونشر قصصا قصيرة عدة في ملحق «المساء» الأدبي الذي كان يشرف عليه عبدالفتاح الجمل، ولكن صلاح أبوسيف قرأ هذه القصص، وجذبه إلى عالم السيناريو، فدرس في معهد السيناريو الذي كان يديره أبوسيف، ثم اختاره للعمل في قسم السيناريو بمؤسسة السينما في وزارة الثقافة، التي كان أبوسيف يديرها أيضا.وكان رأفت يعمل مدرسا للإنكليزية في معهد منوف الديني، وهي مسقط رأسه، فاستقال بعد عامين، وأصبح موظفا في وزارة الثقافة.انتهت شهادة سمير فريد عن رأفت الميهي.وتبقى شهادتي. فالرجل يُعتبر الأب الروحي للسينما الفانتازيا القاسية التي تعرّي الواقع بشكل شديد القسوة، وأنه كان فنانا شاملاً للسينما. كتب وأخرج ولم يبق سوى أن يمثل. وأنا أعرف أنه فكّر في هذا في مرحلة من حياته، ثم أنه كان موسوعي الثقافة، متابعا جيدا للحياة الثقافية، أكثر من متابعته للحياة السينمائية.ما لا يعرفه الكثيرون أن رأفت الميهي، نشر روايتين: الأولى «هورجادا سحر العشق» التي أصدرها صديقه الكاتب والصحافي والناقد قصي صالح الدرويش في باريس العام 2001، ومنعت من التوزيع في مصر، والثانية «الجميلة حتمًا توافق» التي صدرت عن دار الهلال في سلسلة روايات الهلال العام 2006، وقد كتب رأفت الميهي سهرات تليفزيونية عدة، ولكنه وجد نفسه في السينما كاتبا للسيناريو منذ 1965.تبقى قائمة أفلام رأفت الميهي، لا بد من إثباتها في مواجهة غول النسيان الذي يمكن أن يطال اسم رأفت الميهي ومشروعه السينمائي:«عيون لا تنام» إنتاج وعرض 1981. «الأوفوكاتو» إنتاج 1983 عرض 1984. «للحب قصة أخيرة» إنتاج 1984 عرض 1986. «السادة الرجال» إنتاج 1986 عرض 1987. «سمك لبن تمر هندي» إنتاج وعرض 1988. «سيداتي آنساتي» إنتاج 1989 عرض 1990. «قليل من الحب، كثير من العنف» إنتاج 1994 عرض 1995. «ميت فُل» إنتاج 1995 عرض 1996. «تفاحة» إنتاج 1996 عرض 1997. «ست الستات» إنتاج 1997 عرض 1998. «علشان ربنا يحبك» إنتاج 2000 عرض 2001.من الصعب أن أقدّم القائمة من دون أن أتوقف أمام فيلمه البديع، الذي أقام علاقتي به على أساس متين. وما أن أشاهده حتى يخيل إليَّ أنني لم أره من قبل، وأنني أشاهده لأول مرة. إنه فيلم: «عيون لا تنام».ورغم صعوبة اكتشاف مصدر القصة التي تحولت لفيلم مصري، لأن المصدر غير مصري، فإن رأفت الميهي بنزاهته وشرفه الذي لا نجده عند الكثير من الآخرين، كتب في العناوين، أن عمله مأخوذ عن مسرحية «رغبة تحت شجرة الدردار» للكاتب المسرحي الأميركي يوجين أونيل.الفيلم يرصد، ما جرى في قلب الواقع المصري. اختار ورشة إصلاح سيارات، تقبع في قلب القاهرة، عند كوبري أكتوبر في أيامه الأولى. الورشة يهيمن عليها الأخ الكبير إبراهيم، بأداء فريد شوقي، يستولى على عائدها، لا يعطي إخوته إلا أقل القليل، لدرجة أنهم غادروا المكان في ما عدا إسماعيل، قام بدوره الفنان أحمد زكي، الذي يواجه الرغبة الجنونية في الملكية التي تستحوذ على شقيقه الكبير، ولأن الشقيق الكبير لم يكن ينجب، وكانت تعذبه هذه الحكاية.يريد ابنًا يرثه، يتزوج من فتاة غلبانة، جميلة، لعبت دورها الفنانة مديحة كامل، لا يتوقف عن إهانتها، تنشأ علاقة بين المضطهدين إسماعيل ومحاسن التي تغدو حاملا. تتعثر ولادتها، الطبيب يخبر إبراهيم، إما إنقاذ الأم أو الوليد بلا تردد، يختار الوليد، فالتوريث عنده أهم من أي شيء آخر. يثور إسماعيل..وفي مشهد عاصف، ينهال على أخيه المهيمن بعمود من حديد فيرديه قتيلا، وقد خضب الدم جبينه وسال على قميصه.ولأن مقادير الحياة ترتب نفسها بطريقة لا ندري عنها أي شيء، فإن هذا الفيلم عُرض لأول مرة في دور السينما بالقاهرة والمدن الأخرى يوم الاثنين 5 أكتوبر 1981، وجاء اليوم التالي الثلاثاء 6 أكتوبر، ليفاجئنا بأن الواقع، على نحو ما، يحاكي ما جاء في «عيون لا تنام»: رب الأسرة، الميهمن على الأمور.لقد تلاقى الفيلم مع الواقع بطريقة غريبة، فالبطل الذي يريد أن يستولي على كل شيء، يقابله الرئيس المؤمن، الذي زج بكل ألوان الطيف السياسي في السجون، وكلاهما يتهاوى قتيلا وقد تدفق الدم على سترته، بطل الفيلم لأن شقيقه قتله، والرئيس لأن أحد ضباط العرض العسكري خرج وقتله.يقول لنا تاريخ السينما المصرية في اليوم التالي 7 أكتوبر، أغلقت كل دور العرض، بما في ذلك تلك التي تعرض فيلم «عيون لا تنام»، الذي يُعد فيلمًا يرقى لمستوى النبوءة، المثيرة للتأمل، بما في ذلك نهايته الفاجعة.هل رأيت عظمة الفن عندما يلتحم بالواقع ويعبّر عنه بدقة تصل لحدود العظمة؟ ثم يصبح قادرًا على التنبؤ بما لم يحدث في أرض الواقع. إن الناس تخرج من السينما للحياة لتكتشف أنها كانت تجلس أمام زرقاء اليمامة، التي حذّرت أهلها مما هو آت، لكنهم لم يستمعوا لتحذيرها فكانت الكارثة.
محليات - ثقافة
مشاهــد / رأفت الميهي
| يوسف القعيد |
11:54 ص