اليوم نهاية المهلة التي يستطيع خلالها الكونغرس الأميركي الخاضع لسيطرة الجمهوريين، التصويت على الاتفاق النووي مع إيران، الذي أصبح تطبيقه متوقفاً فقط على الالتزام العملي ببنوده من أطرافه، وخصوصاً من جانب طهران، بعد أن حسم أوباما المعركة لمصلحته حين أحبط الديموقراطيون، قبل أكثر من أسبوع، مساعي الجمهوريين لعرقلة رفع العقوبات الأميركية كنتيجة للاتفاق، فسقط هذا الخيار من يدهم في حينه.لكن النتيجة كانت محسومة قبل ذلك بكثير، فالمصالح التي تجمع أميركا وإيران مهما أظهرتا من عداء لبعضهما البعض، تعود إلى زمن طويل. ومن يقول ذلك هم أرباب السياسة الخارجية الأميركية من أمثال هنري كيسنجر وزبيغنيو بريجنسكي اللذين يدعوان منذ سنوات طويلة الإدارة الأميركية للتقارب مع طهران. وكان كيسنجر قد وصف إيران في العام الماضي بأنها «حليف طبيعي للولايات المتحدة» وأن «الذي يجعلها خصماً لنا هو فقط المركّب الديني والعقائدي».أما معارضة الجمهوريين الشديدة للاتفاق النووي، فتندرج في إطار المنافسات السياسية الداخلية الأميركية، إلى جانب جهود اللوبي اليهودي، المموّل الرئيسي لحملاتهم الانتخابية، لحماية مصالح إسرائيل من مفاعيل هذا الاتفاق، الذي سيعطي إيران بالتأكيد دورا إقليميا أكبر، تماما كما تتخوّف إسرائيل، فجاءت هذه القضية بالتحديد لتثبت ان نفوذ اللوبي اليهودي في أميركا آخذ في التراجع والضعف.قبل ان تبدأ المفاوضات النووية بسنوات، أقله في شوطها الأخير الذي اصبح يجري علنا ورسمياً وبمشاركة وزيري الخارجية، شنت أميركا أكبر حربين في هذه المنطقة على أكبر عدوين لإيران، «القاعدة» و«طالبان» في افغانستان، وصدام في العراق، وقامت بطرد هذين العدوين وإبعادهما نهائيا عن حدودها، من دون أن تبذل طهران نقطة عرق واحدة، ناهيك بنقطة دم، ومن دون أن تدفع فلسا واحدا. بل أنها سيطرت بعد ذلك على العراق، تحت سمع وبصر الأميركيين.طبعا لم تخض أميركا هاتين الحربين من أجل إيران، ولكن لنا أن نتخيل ما هي المصالح المشتركة، اذا كانت أميركا مستعدة لأن تدفع آلاف القتلى من جنودها، وأكثر من ألف مليار دولار، للقضاء على نظامين هما في الوقت نفسه أكبر عدوين لإيران. أما ماذا قدمت إيران في المقابل؟ فلم تكن بحاجة إلا لأن تكون هي إيران، بجغرافيتها الثابتة، وباستقرارها كدولة لا تواجه أي تهديد كياني، كما هو حال دول كثيرة في هذه المنطقة، أصبحت كياناتها في السنوات الأخيرة، في مهب الريح.كل الكلام عن العداء المستحكم، وعن كراهية إيران للأميركيين، هو تجارة بازار لا يحتاج الإيرانيون إلى إظهار مهارتهم فيها. وأما العداء لإسرائيل فموجود في إيران، ولكن من قال إن أميركا لا تنام الليل اذا أضمرت طهران نية لإيذاء إسرائيل أو إسرائيليين بحدود معينة. وكل التطمينات الأميركية لإسرائيل في هذا المجال، هي أيضا تجارة قد يكون الأميركيون تعلموا شيئا منها من نظرائهم الإيرانيين خلال أشهر التفاوض الطويلة.الانصاف يقتضي القول ان الذي اتاح الاتفاق النووي هو أن أميركا تغيّرت وتغيّر معها العالم. أميركا أتعبتها الحروب وسياسة المقاطعة والعقوبات، فضلا عن ان النفط الذي كان في السابق سببا رئيسيا للحروب، لم يعد كذلك اليوم، بعدما حولته الثورات التكنولوجية، سواء في مجال الاستخراج أو الطاقات البديلة، إلى سلعة معروضة أكثر بكثير مما هي مطلوبة.فلم يكن صدفة أن الاتفاق مع إيران جاء في الاسابيع نفسها التي رفعت خلالها واشنطن حصاراً اقتصادياً دام 55 عاما على كوبا، وهو ما يظهر ابتعاد أميركا عن التطرف اليميني، وأول الخاسرين من ذلك هما لوبي السلاح واللوبي الإسرائيلي، حتى لو كان الجمهوريون يسيطرون حالياً على مجلسي الكونغرس، وحتى لو سيطروا معهما على الرئاسة في العام المقبل. فالمؤسسة الأميركية لا تكترث كثيرا لمن يكون في الحكم.أما إيران التي أنهكتها العقوبات، ولكنها لم تغيّرها، فالأرجح ان رفع هذه العقوبات، وإعادة دمجها بالعالم، وتكبير دورها، هي الأمور التي ستغيّرها. ليس المقصود ان النظام سيتغيّر، فهو أثبت براغماتيته، لكن المجتمع الإيراني سيتغيّر، وستتبدل موازين القوى في داخله نتيجة التعاملات مع الغرب.كيف ستكون إيران بعد عشر سنوات مثلا؟.. البازار هو الفيصل.
مقالات
الاتفاق النووي و... البازار
10:07 م