لبنان «على موجة» أخرى. فالمنطقة امام منعطف تاريخي تكاد ان ترتسم معه مجدداً ملامح «حرب باردة» جديدة من خلف «خطوط النار» السورية، المتشابكة مع الملفات الأخرى «المشتعلة»، كما مع المفاعيل السياسية المرتقبة للاتفاق النووي بين ايران والمجتمع الدولي. اما بيروت فتجد نفسها أمام مشكلة النفايات التي جاءت التعبير الأكثر دراماتيكية عن الأزمة اللبنانية المتمادية، التي تفوح منها «رائحة» الصراعات على الأحجام والنفوذ والتوازنات، كما الحسابات الشخصية والفئوية، وكلّها عناصر تشكّل انعكاساً لـ «المنازلات الصاخبة» بين اللاعبين الاقليميين والدوليين الفاعلين والمؤثّرين في «بلاد الأرز».ورغم القراءات التي لا تتوانى عن وضْع «تحمية» الوضع اللبناني من بوابة أزمة النفايات التي فجّرت حِراكاً مدنياً اعتراضياً بالشارع، في سياق جعْل البلاد على سكة الأزمات في المنطقة، وتالياً جزءاً من «خريطة الحلول» التي تُرسم بالدم في أكثر من ساحة، فان المؤسسات باتت أسيرة الصورة الهزيلة التي تقدّمها عن نفسها. فهي تبدو حتى الساعة عاجزة عن تطبيق خطة لإنهاء أزمة النفايات جرى إقرارها في جلسة استثنئاية لمجلس الوزراء (المعطّل عن العمل)، بما بات ينذر بـ «تآكل ذاتي» لـ هيْبة الدولة التي صارت «بين ناري» احتجاجات يختلط فيها المطلبي المعيشي بالسياسي وأزمةٍ مؤسساتية متمادية «منبعها» الفراغ الرئاسي وفاقَمها خروج ملفات الفساد دفعة واحدة من «القمقم».حتى ان هذه «الضوضاء» التي يبدو فيها «الكل يشتبك مع الكل»، طغت على طاولة الحوار التي دعا اليها رئيس البرلمان نبيه بري وعقدت اول اجتماعاتها الاربعاء، وسط احتضان عربي ودولي لها انطلاقاً من الرغبة الخارجية في محاولة تجديد «بوليصة التأمين» للواقع اللبناني بمعنى منْع انزلاقه الى الفوضى الكاملة.على ان البارز امس كان ان هذا الاحتضان لم يتأخّر عن الدخول على خط التباينات القائمة بين الأقطاب المتحاورين حول الاولويات ومداخل الحلول للأزمة السياسية، وسط اعتبار قوى 14 آذار ان الحل يكون بانتخاب رئيس الجمهورية اولاً، واتجاهها الى رفض القفز فوق هذا البند، لمناقشة اي عناوين أخرى من جدول الأعمال الذي وضعه بري، مقابل وضْع فريق 8 آذار الانتخابات النيابية اولاً، وفق قانون يعتمد على النسبية وتخيير العماد ميشال عون خصومه بين إما استيلاد برلمان جديد يتولى انتخاب رئيس البلاد، او تعديل الدستور بما يجعل انتخابه يحصل من الشعب.وبرزت الزيارة التي قام بها السفير السعودي علي عواض عسيري لرئيس الحكومة تمام سلام حيث نقل اليه «حرص خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز على استقرار لبنان وتطلعات القيادة السعودية الى ان يتجه الحوار القائم حالياً الى انتخاب رئيس الجمهورية لتعزيز المؤسسات الدستورية».واذا كان كلام عسيري اعتُبر اشارة سعودية تلاقي موقف المجتمع الدولي الداعي الى انتخابات رئاسية «الآن»، فان أطرافاً شاركت في الحوار عبّرت عبر «الراي» عن شكوكها في مدى قدرة هذه المواقف على اجتراح مخارج للأزمة الرئاسية، ملاحِظة ان «حزب الله» بدا على طاولة الحوار وكأنه «مرتاح الى وضْعه»، وواثق من ان المسار في المنطقة سيساعده على بلوغ حلّ لا يتعارض مع أجندته، ومشيرة الى ان اي مخارج للملف الرئاسي لن تكون متاحة قبل ضوء أخضر ايراني يرتبط بمجمل المواجهة في المنطقة.وفي حين رحّبت وزارة الخارجية المصرية بدعوة بري «لحوار وطني بين القوى السياسية اللبنانية»، مشيرة الى «أننا نتطلع لاستجابة الافرقاء اللبنانيين للدعوة»، توقفت الأوساط السياسية عند الموقف الذي أطلقه البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي في بداية زيارة رعوية لمنطقة عاليه تستمر ثلاثة ايام اذ توجّه الى الشباب «الذين يتظاهرون كبارا وصغاراً»، موجهاً تحية لهم كما الى المضربين عن الطعام (امام وزارة البيئة) «ونشكرهم لانهم يطالبون بوضع حد للفساد وان تستعيد الدولة مسؤولياتها ويعيشون بصحة تامة»، مضيفاً: «اما انا فأقول لهم ان يصوبوا المطالب نحو مطلب أساسي وهو الباب الأساسي لكل الامور ولتلبية المطالب كافة، وهو انتخاب رئيس للجمهورية بأسرع ما يمكن».وفي هذا الوقت، كان «إطلاق النار» الشعبي على الخطة التي وضعها وزير الزراعة أكرم شهيب لمعالجة أزمة النفايات والتي أقرّها مجلس الوزراء الاربعاء، يثير مخاوف من «قطبة مخفية» سياسية تريد إبقاء «فتيل» هذا الملف مشتعلاً، بما يسمح بتوظيفه داخلياً ليصبّ في اتجاه الرياح الاقليمية التي يمكن ان تقتضي ايجاد مخارج للواقع اللبناني «على الحامي».وتوالت الاعتراضات في الشارع على المواقع التي حددتها خطة شهيب لإقامة مطامر في إطار معالجة ملف النفايات على مرحلتين انتقالية ومستدامة. فمن الناعمة، اعلن اهل المنطقة رفض معاودة فتح المطمر الذي كان قفْله في 17 يوليو الماضي، من دون ايجاد بديل لاستقبال نفايات بيروت وجبل لبنان، فجّر الأزمة المتمادية، علماً ان شهيّب اقترح فتحه سبعة ايام فقط كجزء اساسي من الحل المتكامل الذي يبدأ بجمع كل النفايات المتراكمة في شوارع العاصمة والجبل وطمرها في الناعمة على ان «يُختم» بعدها لمرة أخيرة ونهائية.ومن البقاع وعكار، ارتفعت الأصوات الرافضة إنشاء مطمرين في منطقة المصنع الحدودية مع سورية كما في منطقة سرار، لتنتقل عدوى الاحتجاجات الى صيدا رفضاً لاستقبال جزء من نفايات بيروت ومعالجتها في معمل المدينة، الأمر الذي رفع وتيرة الشكوك في امكان حلّ هذه الكارثة البيئية التي تنذر بويلات صحية مع اقتراب اولى «الشتوات»، وسط تحذيرات من انتشار اوبئة مثل الكوليرا والطاعون اضافة الى الأمطار الأسيدية.ومن خلف ظهر هذا «الكابوس» البيئي - الصحي، استوقف الدوائر السياسية عودة الاشتباك «بالواسطة» بين الرئيس بري والعماد ميشال عون، والذي عبّر عن نفسه من خلال الاتهامات المتبادلة بـ «الكذب وسفافة اللسان والافلاس» بين مكتبيْ وزيريْ الطاقة ارتور نظريان (من تكتل عون) والمال علي حسن خليل (مستشار بري) وذلك على خلفية ملف العتمة الكارثية.
خارجيات
مصر مرتاحة للحوار والسعودية تتطلّع إلى أن «يتجه لانتخاب رئيس»
لبنان يصارع «جبال النفايات» وعيْنه على انفراجٍ لم يحنْ بعد
08:59 م