يقول الشاعر: «أُعلل النفس بالآمال أرقبها... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل».ما كان سيكون عليه حال اللاجئين، سوريين وغيرهم، لولا فسحة الأمل الألمانية التي حلت عليهم وهم يفترشون الأرض قرب محطة قطارات بودابست، بعد أن منعتهم السلطات هناك من إكمال المسير نحو جنان اللجوء الانساني في ألمانيا والسويد، أو ما زالوا يحاولون عبور الأسلاك الشائكة بين صربيا والمجر، أو على طريق بحري أو بري محفوف بالخطر بين تركيا واليونان؟نعم لقد كان لصورة الطفل السوري إيلان الكردي الذي غرق مع أمه وشقيقه، أثناء رحلة بقارب من تركيا الى اليونان، أثر كبير في قرار ألمانيا وغيرها من الدول لفتح الباب، واسعا أو مواربا، امام موجة اللاجئين الذين تقطعت بهم السبل على الحدود، وربما من سيصلون لاحقا.ستحسب هذه اللفتة لألمانيا، وستدخل في رصيدها كدولة تصرفت بما يليق بحضارتها تحت ضغط أزمة، وستعزز سمعتها في العالم، لترتد عليها بالفائدة في نهاية المطاف. لأن السمعة الطيبة عنصر مهم في تسويق البلد ومنتجاته، سواء الاستهلاكية أو الثقافية أو الرياضية. وألمانيا بلد صناعي ورياضي كبير ويتمتع بثقافة عريقة. واذا كانت سمعتها قد تدهورت بعد الحربين العالميتين، وكلّفتها مبالغ طائلة كتعويضات، ومصروفات على الحملات الدعائية لاعادة تلميع صورتها، فان مثل هذه اللفتات تساهم كثيرا في ترميم هذه الصورة.على ان الأهم من ذلك، هو الفائدة المباشرة التي ستجنيها ألمانيا من استضافة هؤلاء اللاجئين. ولم تخف المستشارة أنغيلا ميركل التي حجزت لنفسها مكانة عالمية مرموقة بقرارها قبول اللاجئين، وهم ردوا الجميل بالهتاف باسمها، انها تتعامل مع الأمر بوصفه استثماراً، إلى جانب كونه تصرفاً انسانياً، ولذلك كان قرارها تخصيص 6.5 مليار يورو للانفاق على اللاجئين.فاللاجئون الذين يستطيعون تحمل عناء هذا النوع من السفر، هم كلهم تقريبا من الشباب الأصحاء، أو الأطفال، فضلا عن أنه في حالة السوريين تحديدا، هناك نسبة كبيرة من المتعلمين، وبعضهم من أصحاب الاختصاصات، ويمثل ادماجهم في سوق العمل الألماني مكسبا كبيرا للبلد، وهو ما لمحت إليه ميركل نفسها، في الحديث عن انها تراهن على ان هذه الموجة من اللاجئين تبدو اكثر سهولة للاندماج، مقارنة بموجات هجرة طويلة سابقة إلى بلادها لم تفلح في الاندماج. وألمانيا مجتمع هرم حيث تفيد التوقعات بأن عدد سكانها سينخفض بنسبة 2 في المئة بحلول العام 2060. ولنتخّيل حجم الدماء الشابة التي يضخها اللاجئون في هذا المجتمع، فضلا عن المساهمة في جعله أكثر تنوعاً، نظرا لاختلاف ثقافات اللاجئين.تكفي مقارنة بسيطة بين كلام ميركل عن أن «للإسلام مكاناً في ألمانيا»، وكلام رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان عن رفض بلاده استقبال اللاجئين المسلمين، وحديثه قبل ذلك عن «تهديد الجذور المسيحية لأوروبا» من قبل اللاجئين، للإضاءة على طريقتين بالتفكير في العالم المتقدم. واحدة تنشد الانغلاق وتتميز بالتمسك بالماضي والخوف من أصحاب الثقافات الأخرى، ولا سيما إذا كانوا مسلمين في هذه الأيام، وأخرى منفتحة تسعى لتحويل الأزمات إلى فرص يمكن الاستفادة منها، وتراهن على المستقبل وتترك الخوف جانبا. وهذه الفئة الثانية وجدت دعما حاسما لا يقدر بثمن، من رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس، الذي اعتبر أن استضافة اللاجئين تقع في صلب العقيدة المسيحية.وليس سرا ان موجة الاعلانات التي لحقت بميركل عن قبول أعداد من اللاجئين، جاءت على مضض وللحاق بالركب، وخجلا من مستشارة ألمانيا التي أعطت درسا في كيف تكون القيادة، وبعد أن أحرجتهم صورة إيلان مرميا على الرمال في بودروم التركية، من دون تقديم مساعدة فعلية في حل الأزمة. فبريطانيا عرضت استقبال 20 ألفا وفرنسا 24 ألفا على مدى سنتين، وهي أعداد قليلة، في حين ان قبرص عرضت ايواء 300 لاجئ مع «أفضلية ان يكونوا من المسيحيين».بدلا من ذلك، دفعت المؤسسات الحاكمة في الدول الغربية إعلامها للتحريض على دول الخليج، بداعي انها لم تستضف ما يكفي من اللاجئين، رغم اخوة الدين والقومية والثقافة مع السوريين، فانتشرت كالفطر المقالات والتحقيقات في الصحف الغربية ووكالات الأنباء العالمية، التي تقول ان دول الخليج تتحمل مسؤولية في استمرار الحرب السورية ولا تستقبل اللاجئين، وهو أمر يحتاج إلى كثير من التدقيق، وتدحضه حقائق كثيرة، منها ان هذه الدول، وإن كان مطلوبا منها القيام بالمزيد، ساهمت في تخفيف معاناة اللاجئين، استيعابا فيها من خلال لم الشمل، أو مساعدة لهم حيث هم، فيما المسؤولية عن استمرار الحرب هي مسؤولية غربية في الأساس.ميركل التي تعتبر من الأقل مسؤولية بين القادة الغربيين عن استمرار الحرب السورية، قدمت أكثر مما يتوجب عليها، وتستحق الشكر.