دفع دخول الشارع بقوة على المشهد اللبناني المترنّح فوق «فوهة» مأزق سياسي - دستوري الى تَعاظُم عملية «عض الأصابع» الدائرة على خلفية الأزمة الحكومية التي تشكّل امتداداً للفراغ المتمادي في رئاسة الجمهورية والتعطيل المستمرّ للبرلمان.وتحت وطأة التداعيات الناجمة عن الصِدامات في وسط بيروت بين قوى الأمن والمتظاهرين ضدّ الواقع المتردي في لبنان، اضطر رئيس الحكومة تمام سلام الى الخروج عن صمته في مكاشفة أجراها ولم تخلُ من «مضبطة اتهام» لأطراف سياسيين في حكومته بالتمادي في شّل المؤسسات، لا سيما مجلس الوزراء، غامزاً من قناة زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون في شكل أساسي، من دون ان يوفّر مجمل القوى السياسية في مسؤولياتها عما آلت اليه الأوضاع في البلاد.وبدا واضحاً ان ملامح «الانفجار» في الشارع الذي باغت الجميع وجاء من خلف كل «الخطوط الحمر» التي رُسمت حول الاستقرار ومصير الحكومة، باتت جزءاً من الكباش السياسي المستعر على خلفية محاولات إطلاق عجلة العمل الحكومي بعدما كان العماد عون، مدعوماً من «حزب الله»، شلّ مجلس الوزراء بسبب إصراره على تعيين صهره العميد شامل روكز قائداً للجيش، وتمسُّكه بمشاركة رئيس الحكومة بوضع جدول أعمال جلسات مجلس الوزراء، وبآلية التوافق الاجماعي في اتخاذ القرارات.فالرئيس سلام، تلقّف «ناقوس الخطر» الذي قُرع في الشارع ليضغط في اتجاه تحويل الجلسة المقبلة لمجلس الوزراء، التي لمّح الى امكان تقريب موعدها عن الخميس، محطة لاختبار حاسم، فإما ان تكون منتجة وتقرّ البنود الطارئة المتعلقة بحياة المواطنين لا سيما رواتب موظفي القطاع العام والقروض الميسرة والهبات اضافة الى بت قضية النفايات في ضوء فض عروض المناقصات الذي سيجري غداً، وإما «لا لزوم لمجلس الوزراء»، كما قال رئيس الحكومة، في اشارة ضمنية الى امكان استقالته التي سبق ان لوّح بها قبل اسابيع قليلة، ثم تراجع عنها تحت وطأة ضغوط محلية وخارجية، تخشى سقوط لبنان في الفراغ والفوضى الكاملة،وتَحوُّله «دولة فاشلة» في لحظة اقليمية بالغة الخطورة.وقد جاء المؤتمر الصحافي لسلام بمثابة مفاجأة سياسية، اذ اتخذت مواقفه سلام بعداً ثلاثياً، لانه تعاطف بالكامل مع المواطنين، وتعهّد المحاسبة الحاسمة للذين استعملوا الافراط في القوة ضدهم، كما انه حوّل وجهة تداعيات الأحداث نحو القوى السياسية، وفي الوقت نفسه بدا موقفه محاولة لاحتواء الأزمة، على عتبة انعقاد جلسة مجلس الوزراء، وهو الأمر الذي سيساعده على حشْر القوى السياسية لاقرار جدول أعمال الجلسة كما وضعه.وحمل رئيس الحكومة بشدة على القوى السياسية الى درجة وصفها بـ «النفايات السياسية» وقال انه «جزء من الناس ومعهم ومنهم»، رافضاً الافراط في استعمال القوة مع المتظاهرين ومتعهداً المحاسبة على كل المستويات. وأكد انه لن يغطي أحداً، مذكراً بانه منذ ثلاثة أسابيع كان يزمع الاستقالة، ولكنه تراجع عن قراره بعد ردة فعل الناس.وأعلن: «انا حسابي مع الناس وليس مع حلفائي فأنا منكم وعلى الشعب ان يسائل الحكومة»، منتقداً بشدة التصريحات السياسية التي أُطلقت عقب تظاهرة وسط بيروت، وقال انه لن يكون شريكاً في الانهيار ولتتحمل كل القوى السياسية مسؤلياتها. وأعلن ان الخميس «ستكون أمامنا جلسة منتجة وإلا لا لزوم بعد ذلك لمجلس الوزراء وانا موظف عند الناس لا عند التعطيل ولا عند التوظيف السياسي»، لافتاً الى ان «إحراجي لإخراجي ليس بالجديد والتوافق لا يعني شل البلد إنما إيجاد أرضية لحل مشاكلنا المتراكمة».وأطلّ العماد عون بموقفٍ عكس منحى متشدداً سيتخذه وزراؤه في الحكومة، كما اعتُبر مؤشراً الى محاولة استثمار تحرك المجتمع المدني للضغط على الحكومة في إطار المساعي المستمرة للبحث عن مخرج للعميد روكز، يضمن بقاءه في المؤسسة العسكرية (تنتهي خدمته في منتصف اكتوبر)، لحفظ حظوظه في تولي قيادة الجيش خلفاً للعماد جان قهوجي الذي مُدد له لسنة.واكد زعيم «التيار الحر» ان «مؤتمر العجز المقيم وكلام الاحتواء العقيم ومحاولة الابتزاز المهين لن يمرّ من دون ردّ مناسب في مجلس الوزراء وخارجه خصوصاً على مستوى الشعب»، مهنئاً «الشباب اللبناني الذين تظاهروا سلمياً وحضارياً وأثبتوا وعيهم ونضجهم في المناداة بالمطالب الحياتية الملحة كما دلوا على مفاصل الخلل في ممارسات الاكثرية الحاكمة». واذ دان «التعرض للمتظاهرين بالعنف واطلاق الرصاص الحي»، مطالبا «بتحديد المسؤوليات السياسية والمسلكية فورا والمساءلة والمحاكمة، وهو ما لن نتساهل فيه وسنبني عليه خطواتنا اللاحقة»، حذر «الاكثرية الحاكمة واجهزتها كافة من استغلال هذه الحركة الاعتراضية النبيلة لتحقيق مكاسب سياسية والاستحواذ على دلالات هذه الحركة، للامعان في تسلط هذه الاكثرية وإنكار الشراكة الوطنية»، مشدداً على «ان كل سلطة لا تملك شرعية الشعب الذي ينتخبها ولا تتقيد بقانونية القرارات الصادرة عنها، انما تعمم الفوضى وتضرب الاستقرار».واذا كان ما اعلنه عون يؤشر الى المنحى التصعيدي الذي يهدد بانفجار الحكومة من داخلها، فان النائب وليد جنبلاط بدا الاكثر ارتباكاً في تحديد موقفه بعدما استشعر بالمخاطر المترتبة على انزلاق الشارع الى الفوضى، ووجود محاولات لاستغلال تحرك المجتمع المدني.وقد رسا الموقف الاخير لجنبلاط على اعلان «التأييد والدعم الكامل لرئيس الحكومة الذي أكد مرة جديدة في مؤتمره الصحافي مدى تحليه بالحكمة والروية والصبر والمسؤولية، وهي صفات نحن أحوج ما نكون إليها في هذه اللحظات العصيبة التي يمر بها لبنان وتمر بها المنطقة بأكملها».كما أيد موقف سلام الحازم «لناحية حتمية أن تكون جلسة مجلس الوزراء في أقرب وقت منتجة، ذلك أن الاستمرار بسياسة التعطيل لم يعد مقبولاً تحت أي ذريعة»، مؤكداً «رفض استغلال التحرك الشعبي لتوسيع قاعدة الشلل والتعطيل وضرب أسس ومرتكزات النظام والاستقرار».وأوضح في اشارة ضمنية الى عون انه «يحق لمجموعة طلعت ريحتكم أن ترفع الصوت إزاء تفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية والمعيشية، ولكن حذار من استغلال قوى التعطيل لهذا التحرك، خصوصاً القوى التي عطلت انتخابات الرئاسة ثم مجلس النواب، وصولاً إلى تعطيلها مجلس الوزراء. فهذا الاستغلال سيسيء إلى الاستقرار الداخلي وإلى التحرك المطلبي على حد سواء».واذ لفت الى ان «حرية التظاهر مقدسة»، قال «إلا أنها يفترض أن تبقى تحت سقف القانون، فالتعرض للممتلكات العامة والعبث بها أمر مرفوض ومسؤولية القوى الأمنية المحافظة عليها وحمايتها»، مشيراً الى انه «مع التأكيد على محاسبة من أطلق النار من رجال الأمن، إلا أنه لا بد أيضاً من محاسبة من تعرض للقوى الأمنية وتسبب بسقوط جرحى منهم».