ارتاح الرجل أولاً من رحلة الحياة والعمل والمغامرات الطويلة، وثانياً من تداعيات الزهايمر الذي أصابه بقوة قبل أشهر، وثالثاً من الوحدة التي عاشها بعيداً عن السينما والنساء وأضواء العالمية المبهرة.عمر الشريف... دخل مرحلة الذكرى والرمز.نجم سطع في العالم، لكن بلده لم تكرمه، فهو اختار ومن دون أي ضغوط أن يعود إلى مصر حيث ولد وعاش وعرف الفن وأحب فاتن حمامة وظل وفياً لحبها حتى ماتت ومات في تاريخين متقاربين، زير النساء في أوروبا والعالم ظل يكرر عبارة: «لم أحب سواها» حتى لحق بها غير عارف إلى أين يمضي لأن الزهايمر كان التهم كامل الذاكرة.الحنين إلى مصر أرّقه دائماً حيث لم تستطع كل حضارة الغرب ومغرياته أن تقنعه بنسيان مسقط رأسه والذوبان في المجتمع الغربي الذي يؤمن للفرد غاية ما يتمناه في كل المجالات باستثناء الرباط العائلي الذي لا ينفصم، وها هو يترك ابناً (من فاتن) وحفيداً (أزعج نجمنا لكثرة تصرفاته الخالية من أي مسؤولية) ولا أقارب بل بعض الأصدقاء و إن كان خسر في فترة سابقة أغلى أصدقائه على الإطلاق الفنان أحمد رمزي الراحل منذ سنوات، وكان عمر نال شرف العالمية آخذاً الفرصة من أمام أحمد فقط لأن عمر يجيد الإنكليزية بطلاقة أكثر من أحمد، فأخذه ديفيد لين، وكان نصيبه أن يصير ما بلغه على مدى نصف قرن ويزيد قليلاً.رفض منذ سنوات العمل الفني في مصر لكنه قبل الظهور في شريط لمخرجة مغربية - فرنسية لمجرد عدم رفض طلب إمرأة كما أبلغنا حين التقيناه قبل عامين في مهرجان دبي السينمائي و برفقته الفنانة يسرا. ونتذكر لقاءه على مدى ساعتين وعشرين دقيقة في صالون الماكياج بأستوديو مصر حين كان يصور مع المخرج هاني لاشين فيلم: «الأراجوز»، يومها تدخل القدر لكي تصبح العشر دقائق المعطاة لنا للتحدّث إليه 140 دقيقة والسبب أن المخرج يعاني من الأنفلونزا فكان أن ألغي التصوير وجاءنا كلامه مباشراً: «شوف يا إبني لو حتسأل كويس أنا معاك، ولو مش حتعرف تسأل حقلك إمشي». هكذا خاطبنا وأطرق أرضاً وقال: إتفضّل.التحدي استنفرنا ولم نترك شاردة أو واردة إلاّ وتطرقنا إليها منعاً لإحساسه بأن معرفتنا به سطحية، لذا لم يتوان في اعتبار البريدج رياضة فكرية مهمة، واعترف بتأثير والدته عليه و أن الكثير من معالم شخصيته تعبّر عن انبهاره بأمه وصفاتها و طبيعة العلاقات التي نسجتها في يومياتها مع الطبقة النخبوية في المجتمع المصري المختلطة مع شخصيات أجنبية من فرنسيين و إنكليز، وكان معظم هذا المشهد البانورامي يحصل أمام عيني ميشال (عمر) وعندما كبر كانت الصور طازجة على الدوام في ذهنه وراح يقابلها بواقع الحياة في أوروبا حين انتقل إلى لندن لمباشرة المشاركة في فيلم ديفيد لين: لورانس العرب، فوجد أن ما تعلمه من والدته هو المناخ السائد في الدول المتحضرة.وواجهت الشاب العربي الطموح حملات ظالمة على مدى السنوات الأولى من احترافه السينما، أولاً اعتقدوا أنه مسلم، ثم عرفوا أن اسمه ميشال، وكونه وافد امن مصر اعتبروه صنيعة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وراحوا يكيدون له كلما خطب عبد الناصر وقال كلاماً ينتقد السياسات الأميركية والبريطانية في المنطقة، وحصل هذا في وقت كان عمر صوّر فيلماً مع اليهودية الأشهر كمطربة و ممثلة باربرا سترايسند، وأشاعت وسائل الإعلام العربية (وفق عمر) أن هناك علاقة عاطفية تربط بينهما، وراحت أقلام في مصر تنتقد و أحياناً تهاجم النجم الذي يمالئ اليهود في وقت يوجه إليهم عبد الناصر وإلى الغرب عموماً إتهامات بالتجسس على مصر، ووقع عمر بين نارين خصوصاً وأن اللوبي اليهودي في أميركا أطلق عليه توصيف: الواد بتاع عبد الناصر.والحقيقة أن أحداً لم يقف إلى جانب عمر داعماً تماماً مثلما لم يجد من يكرّمه، فقد دعم السياحة المصرية في حملات متتالية، وسافر مع وفود رسمية إلى غرب العالم، ودعم صورة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بقبوله منصب الرئيس الشرفي الذي يخاطب كبار النجوم ويدعوهم للمشاركة في المهرجان دعماً و اقتناعاً.واعترف عمر منذ سنوات بأن صداقة عميقة ربطته بالرئيس الراحل أنور السادات حين سلّمه أول رسالة رسمية إسرائيلية من رئيس الحكومة آنذاك مناحيم بيغن عبر وسيط كان صديقاً لـعمر، وبالتالي فإن هذه الرسالة تعتبر أول مبادرة بين الطرفين لبدء محادثات سلام حقيقية أوصلت لاحقاً إلى كامب ديفيد.ورغم ما قيل عن أسطورته الذكورية وعدم نومه عازباً ولو ليوم واحد، فإن عمر أبلغنا بأن هذه الأسطورة وراءها الصحافة العربية التي رسمت له هذا الإطار ثم صدّقته، مصارحاً أن ليالي عديدة نام وحيداً فالتمثيل غير الواقع، والإشاعات غير الحقيقة، معلناً أنه سعد دائماً لصورته عند النساء ولطالما أحبهن واحترمهن لكنه لم يجد بينهن من تملأ فراغ فاتن في قلبه.الزهايمر أصابه منذ وفاة فاتن. إن لهذه المرأة تأثيراً كبيراً عليه وقد نزل عند رغبتها بعدم التصريح عن حبه لها لأنها سيدة متزوجة من غيره.صال وجال، عمل وغامر، لكنه دونما شك أخذ من الغرب الكثير... ولم يعطه العرب شيئاً.